كان يوم الجمعة الفائت يوما عصيبا على الكيان الصهيوني في لجنة تصفية الاستعمار التابعة للجمعية العامة، التي كان يطلق عليها لجنة المسائل السياسية الخاصة، ثم أدمجت في اللجنة الرابعة لتكون إحدى أهم لجان الجمعية الست.
إسرائيل لم تكن معنية بقرارات خمسة أخرى تتعلق بوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والجولان السوري المحتل، وحصر أملاك اللاجئين الفلسطينيين، وتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، ولكنها كادت أن تفقد صوابها لتصويت اللجنة على إحالة مسألة الاحتلال برمته للمحاكمة في أعلى وأهم محكمة عالمية وهي، محكمة العدل الدولية المكونة من 15 قاضيا يمثلون المجموعات الجغرافية كافة.
يذكرني هذا القرار بحنق الكيان عند اعتماد قرار يعتبر الصهيونية حركة عنصرية وشكلا من أشكال التمييز العنصري عام 1975، لأن ذلك القرار كان إدانة للأيديولوجية التي قام على أساسها الكيان الصهيوني، أما قرار اللجنة الرابعة الأخير، الذي سيعرض مرة أخرى على الجمعية العامة للاعتماد في بداية شهر كانون الأول/ديسمبر إنما يحاكم ممارسات الحركة الصهيوينة مجسدة في الاحتلال، وضم الأراضي، وإقامة المستوطنات، والممارسات غير القانونية كافة في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشريف.
إسرائيل تعرف أنها تنتهك القانون الدولي منذ اليوم الأول لإنشائها على جسد فلسطين وتعرف أيضا أن هناك مظلة من الحماية الدولية تقيها من خطر المساءلة والمسؤولية
لقد مارست إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة كل أنواع الضغط والتهديد لثني الدول على عدم التصويت لصالح القرار، لكن ذلك لم ينجح فكانت النتيجة أن حصل القرار على 98 صوتا بينما صوتت 17 دولة ضده وصوتت 52 دولة بـ»امتناع». ومن المهم أن نلاحظ الموقف الأوروبي المنافق الذي يعطي الفلسطينيين كلاما معسولا حول حل الدولتين، ولكن في المواقف الجادة يكشّر عن أنيابه ويصطف إلى جانب إسرائيل، ويعمل على حمايتها من المساءلة والسماح لها بالاستمرار في ممارسة تلك الانتهاكات الجسيمة. فقد صوتت عدة دول أوروبية ضد القرار من بينها إيطاليا وألمانيا والنمسا وهنغاريا والجمهورية التشيكية واستونيا، وبقية الدول اختارت «الامتناع» ولم يصوت مع القرار من الدول الأوروبية إلا إيرلندا وبلجيكا ومالطا ولوكسومبورغ وبولندا والبرتغال. وأغرب الأصوات كان صوت أوكرانيا الذي جاء لصالح القرار، وأعتقد أنه موقف ذكي، إذ كيف من يقاوم الاحتلال سيدعم احتلالا آخر. لكن علينا أن نتذكر أن دولا كانت تعتبر صديقة صوتت بـ»امتناع» مثل اليونان وقبرص والهند وإثيوبيا. وفي كلمة أخيرة قبل التصويت ألقاها السفير الإسرائيلي جلعاد إردان، وهو يرغي ويزبد ويكاد يتفجر غضبا، اتهم الذين سيصوتون مع القرار إنما هم يدمرون عملية السلام (وكأن هناك عملية سلام)، وينهون أي محاولة لاستئناف العملية السلمية، وقال إنها خطوة أحادية يقوم بها الفلسطينيون، وسترد عليهم إسرائيل بخطى أحادية أخرى، وطالب بالتصويت ضد مشروع القرار. وأكد أن بلاده ستعيد النظر في العلاقات الثنائية مع كل دولة تصوت لصالح القرار.
لماذا الحنق الإسرائيلي؟
إسرائيل تعرف أنها تنتهك القانون الدولي منذ اليوم الأول لإنشائها على جسد فلسطين الأرض والشعب، لكنها تعرف أيضا أن هناك مظلة من الحماية الدولية تقيها من خطر المساءلة والمسؤولية. وعندما يتعلق الأمر بمجلس الأمن فالفيتو الأمريكي ظل دائما يشكل صمام الأمان لإسرائيل. لكن هذه المرة لا يوجد فيتو، وهو ليس قرارا للجمعية العامة مثل قراراتها السابقة، بل يحتوي على خطوة عملية بإحالة مسألة الاحتلال نفسه للمحاكمة، مثلما فعلت الجمعية نفسها عندما طلبت عام 2003 من محكمة العدل الدولية أن تبت في مسألة قانونية الجدار العنصري، الذي باشرت إسرائيل آنذاك ببنائه بشكل أساسي على الأرض الفلسطينية. تحول القرار إلى محاكمة لقانونية الجدار استمرت 9 أشهر، صدرت في نهايتها يوم 4 تموز/يوليو 2004 فتوى قانونية مكونة من ثلاثة أقسام: الجدار غير شرعي، يجب أن يفكك ويجب أن يتم تعويض الفلسطينيين الذين تضرروا من بناء الجدار. هذه المرة المحاكمة أوسع بكثير من محاكمة الجدار. إنها محاكمة لكل منظومة الاحتلال وآثاره وتبعاته. وعلى المحكمة أن تجيب عن عدد مهم من الأسئلة الجوهرية، تتعلق بالتبعات القانونية الناجمة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، واحتلالها الطويل والاستيطان وضم الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك قيامها بتغيير التركيبة الديمغرافية والطابع الثقافي والمكانة التاريخية لمدينة القدس الشريف، واعتماد إسرائيل تشريعات وإجراءات تمييزية لتكريس هذه السياسة. كما ستجيب المحكمة عن أثر السياسات والممارسات الإسرائيلية على الوضع القانوني للاحتلال، والتبعات القانونية بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة الناتجة عن هذا الوضع. إسرائيل تعرف معنى القرار وتعرف أنها في ورطة كبيرة: فإن شاركت في المرافعات والمداولات، فسيكون ذلك بمثابة اعتراف بأنها دولة احتلال، وأنها في حالة انتهاك للقانون الدولي وعليها أن تدافع عن انتهاكات واضحة وضوح الشمس. وإن هي قاطعت، وهو المتوقع كما حصل في محاكمة الجدار، سيستفرد خصمها (الفلسطينيون) بتقديم بيانات الإدانة على مهل ويقوم المحامون بتقديم كل الوثائق والبيّنات التي تدين السلطة القائمة بالاحتلال. لهذا جُن مندوب الكيان مثل جنون حاييم هيرتسوك عندما اعتمد قرار الصهيونية عام 1975.
آلية المحاكمة
ستقوم الجمعية العامة أولا باعتماد القرار المقبل إليها من اللجنة الرابعة. وتصبح لغة القرار صادرة عن الجمعية العامة وموجهة إلى محكمة العدل الدولية. وهذه مرحلة الإحالة. وهذا منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة وفقا للمادة 96، الذي يخول الجمعية العامة بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول مسألة خلافية ذات طابع قانوني. المحكمة ستتسلم القرار وتعمل على التعامل معه عملا بالمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، الذي يخولها أن تصدر فتوى بشأن المسائل الخلافية ذات الطابع القانوني، كما فعلت مع الجدار العازل. والمحكمة مخولة بحكم قانونها الأساسي أن تراجع وتقرر من هو في حالة انتهاك لقواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان. تناقش المحكمة أولا السؤال الدائم في أي قضية: هل من اختصاص محكمة العدل الدولية أن تنظر في هذه المسألة. وهذه مسألة إجرائية في غالب الأحيان تحظى بالإجماع، إذا كان هناك نص واضح عملا بالقاعدة الشرعية «لا اجتهاد مع النص». بعد قرار المحكمة (قرار وليس رأيا) بأن المسألة قيد النظر تقع ضمن اختصاصها، تصبح الطريق سالكة للمحاكمة. تطلب عندئذ المحكمة من طرفي النزاع أن يتقدما بمرافعاتهما ووثائقهما. إسرائيل ستقاطع (هذا ما نتوقعه) وهنا ستلوح فرصة ثمينة أمام الفلسطينيين لمحاكمة الكيان الصهيوني برمته على مرأى من العالم. وعليهم اتخاذ الخطوات التالية من بين خطوات أخرى كثيرة:
أولا: يجب تحضير طاقم متكامل من المحامين الدوليين المتمرسين بالمحاكمات الدولية، وعلى علم واسع بالقانون الدولي. ويفضل اختيار عدد من الذين عملوا في هذا الميدان ثم تقاعدوا مثل، ريتشارد فولك، ومايكل لنك وفرجينيا تيلي. ويجب ألا ننسى فرنسيس بويل المختص بالقانون الدولي والقضية الفلسطينية، إضافة إلى طاقم المحامين أو بعضهم الذين جمّعهم ناصر القدوة عام 2003 لمتابعة مرافعات المحكمة حول جدار الفصل العنصري ومنهم ديانا بطو ومايكل ترزي وغيرهم.
ثانيا: يجب إعداد الوثائق والأفلام والأشرطة كافة، التي تظهر وحشية الاحتلال الإسرائيلي. ويجب الاستعانة بالتقارير الدولية المهمة كافة، وهي كثيرة، التي توثق هذه الممارسات.
ثالثا: تقديم تفاصيل عن حركة الاستيطان والأراضي المصادرة والرسومات البيانية التي تثبت أن هناك نية مبيتة لنقل مواطنين من دولة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة، عن سبق إصرار وترصد بهدف مصادرتها وتغيير الطابع الديموغرافي للأرض المحتلة.
رابعا: تقديم كل الوثائق والمستندات والمعلومات، التي تؤكد سعي إسرائيل المتواصل إلى تهويد القدس عن طريق زيادة السكان اليهود وتسهيل انتقالهم إلى القدس وفي الوقت نفسه تقليص عدد الفلسطينيين، وتدمير ممتلكاتهم وإغلاق مؤسساتهم، وفرض المناهج الإسرائيلية على السكان العرب، وتحديد الوصول إلى أماكن العبادة والسماح للمستوطنين بتدنيس المقدسات وارتكاب المجازر في أماكن العبادة.
خامسا: استهداف الأشخاص المحميين قانونا كالصحافيين وعمال الإغاثة الطبية وناشطي حقوق الإنسان والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال ومحاكماتهم في محاكم عسكرية وقضايا الاعتقال الإداري وحجز الجثامين وانتهاك حقوق الأسرى والمعتقلين.
سادسا: يجب إعداد مجموعة مهمة من شهود العيان وضحايا الاحتلال الذين قتل أبناؤهم بدم بارد، أو أحرقت بيوتهم كعائلة الدوابشة وأبو خضير وغالية وغيرهم المئات. هؤلاء يجب تأمين وصولهم للإدلاء بشهاداتهم أمام القضاة.
هذا غيض من فيض ـ فليبدأ الإعداد للمحكمة من الآن. لا وقت للتردد. فلتكن محاكمة القرن لأبشع احتلال عرفه التاريخ المعاصر.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجدامعة رتغرز بنيوجرسي