حروب اليهود الجديدة… الساخنة والباردة

حجم الخط

بقلم جواد بولس

لا يبدو على بنيامين نتنياهو أنه ملهوف على إنجاز مهمة تركيب حكومته اليمينية الجديدة؛ وقد افترض الجميع، بناءً على فوز معسكره الكبير في الانتخابات الأخيرة، أنها ستكون مسألة سهلة ومحسومة. من الواضح أنه تلكؤ محسوب من طرفه يستهدف، بدايةً، ترويض «الطواويس» المنتفضة داخل حزبه ومن مثلهم في سائر الأحزاب الحليفة، التي انبرى بعض قادتها «بالتطاوس» عليه وبفرض شروط مغالية، لن تبقي، لرفاقه في الحزب إذا ما استجاب لها، غنائم وزارية مرضية تذكر.
سيختار بنيامين نتنياهو لحظة الحسم، وسيعلن عن نجاحه بإقامة حكومة بعد أن يكون قد انهك جميع محاوريه وأظهر، في الوقت ذاته، لحلفاء إسرائيل، خاصة للإدارة الأمريكية، أنه وصل إلى خط النهاية بعد أن بذل كل الجهد من أجل تبديد مخاوفهم، كما أُعلن عنها هنا وهناك؛ هذا إذا ما افترضنا أن اعتراض البيت الأبيض حيال إمكانية توزير النائبين سموتريتش وبن غفير، في منصبي وزيري الدفاع والأمن الداخلي، هو اعتراض حقيقي وجادّ، وليس مجرد مساهمة تكتيكية تسهّل على نتنياهو إنجاز مهمته كما يريد.

لن تكون أمام الفلسطينيين مخارج إلا الاستعداد لمواجهة «الكائن الجديد» فهو عدو من فصيل متحوّر أشرس من الذي سبقه وأكثر فتكا وإصرارا منه

سيكون الفلسطينيون في الأراضي المحتلة هدف الحكومة الإسرائيلية الجديدة المباشر، التي من المتوقع أن تضاعف وتعزز دعمها لإرهاب المستوطنين ولاعتداءاتهم على المواطنين العزل، وعلى الأرض الفلسطينية. يحسب البعض أنه لا جديد في هذه الرواية؛ فهذه القطعان السائبة تمارس، منذ سنوات طويلة، هذا الإرهاب بحق المواطنين الفلسطينيين وتعتدي على ممتلكاتهم وتغتصب أراضيهم؛ لكنني، على الرغم من صعوبة الوضع القائم حاليا، أتوقع أن التصعيد الاستيطاني الآتي، المدعوم من جيش الاحتلال، سيكون بأنماط ووسائل مغايرة على صعيدي الكم والكيف، وسيتّسم بممارسات دموية عنيفة، سيتقلد فيها منفذوها ميراث أنبيائهم التوراتي ويتبعون أثر «أبطالهم» كما نقلتها الأخبار الدارسة وأساطيرها ؛ فعشرات نواب الكنيست القوميين الشعبويين، وجميع الأحزاب الصهيونية المتدينة الشريكة في الحكومة المقبلة، يؤمنون بحق الشعب اليهودي على أرض فلسطين كلها، ويزعمون أن «جنودهم» موكلون من السماء بتجسيد هذا الحق على أرض الواقع، وبمواجهة كل من سيعرقل إنجاز مهمتهم بالطرق التي أجازتها تعاليم دينهم: فإما خنوع الأعداء والاستسلام، وإما تهجيرهم وإما القضاء عليهم. من الصعب أن نتنبأ كيف ستتداعى الأمور داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بيد أن الشرارات الأولى للحرائق التي قد تندلع بدأت تتطاير، في القدس وفي غيرها من المناطق المحتلة، وهي كما نعلم رسائل الغضب الفلسطيني، وصراخات ناس لن يقبلوا العيش في حضن الضيم القائم ولا برسم المذلة المتزايدة. تتنامى في فلسطين مشاعر القلق من الغد الآتي، ومع القلق يكبر الاستعداد لمواجهته والتصدي للمرحلة المقبلة؛ ولئن يظهر من بعيد أن كل شيء باق على ما هو عليه في الأراضي الفلسطينية، فذلك شعور غير دقيق وغير صحيح. تحاول مكنة الدعاية الاسرائيلية بث مشاعر اليأس والإحباط في صفوف الفلسطينيين، ونزع الشرعية عن القيادات الفلسطينية، ودور ومكانة منظمة التحرير، ويساعدها على ذلك بعض المنابر والمنصات العربية والمحلية التي تؤدي دورا مشابها، مع اختلاف النوايا طبعا؛ وفي المقابل يحاول العديدون من أصحاب الرأي والقياديين ومعاهد الأبحاث والدراسات معالجة الواقع بمسؤولية وبروية، ويجرون التقييمات ويسدون النصائح الدؤوبة من أجل مستقبل فلسطين وحماية أهلها وحقوقهم، آخذين بعين الاعتبار مستجدات المرحلة الراهنة محليا ودوليا، عربيا واسلاميا، خاصة بعد أن أثبتت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عن أن إسرائيل قد «تغيّرت ويبدو إلى الأبد»، وذلك كما جاء في ورقة تقدير موقف صدرت مؤخرا عن «المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية» في رام الله. ولهذا لا بد من أن تتأهب القيادة الفلسطينية لمواجهة ما ستقدم عليه الحكومة الإسرائيلية المقبلة، وتبادر لاتخاذ خطوات جدية وكفيلة لاستعادة المناعة الوطنية والقدرة على الصمود أمام جميع الضغوطات المحتملة، وقد تكون أولى هذه الخطوات، كما جاء في ورقة المركز المذكورة، العودة إلى «منظمة التحرير» وتعظيم دورها وإبراز قيادتها للمرحلة الحالية، والعمل، بشكل فوري، على تحقيق المصالحة الوطنية، ومنح المقاومة الشعبية منحى آخر، ودعم أطراف عديدة للمشاركة فيه، وتفعيل دور المخيم الفلسطيني وتنظيمه والمساهمة في تطوير الخدمات المقدمة للمخيمات، كونها حصونا للوطن، وتوثيق التنسيق مع الدول العربية وشعوبها. لن يكون أمام الفلسطينيين مخارج إلا الاستعداد لمواجهة «الكائن الجديد» فهو عدو من فصيل متحوّر أشرس من الذي سبقه وأكثر فتكا وإصرارا منه.
إننا مقبلون على عهد دموي وعنيف، لا في الأراضي الفلسطينية المحتلة وحسب، بل عندنا أيضا داخل إسرائيل. فعلى الرغم من خطورة الأوضاع التي ستزجنا فيها الحكومة الجديدة، ما زالت فئات واسعة بيننا تعتبر أن لا فرق بين القوى السياسية الجديدة، التي ستتسنم مقاليد الحكم ومن حكموا إسرائيل في العقود الماضية؛ فقد كنا نعامل كمواطنين عرب بعنصرية وباضطهاد، وهكذا سنعامل أيضا تحت حكم الحكومة الجديدة. حتى إن بعض الفرق بيننا راحت تقول باستخفاف: «خلوها تكبر، فإذا ما كبرت ما بتصغر»، وهو شعار مأخوذ من عالم الحرائق والنار طبعا، ويغفل أو يتغافل قائلوه أن النار لن تصغر إلا بعد أن تأكلنا، نحن حطبها.
أعرف أنه لا يروق للبعض أنني مصمم على قرع أجراس الخطر، قبل الانتخابات وبعدها؛ فمن لا يستوعب الفرق بين النظامين السياسيين، إسرائيل العنصرية كدولة احتلال، وإسرائيل الفاشية كدولة مستعمرة، سيواجه قريبا في الشوارع نيران مسدسات هذه الميليشيات وسياط قادتها الذين سيصبحون الآمرين الناهين في شؤون أمن الدولة وشرعها وشريعتها. القضية ليست محصورة بشخص أو بشخصين، بل هي قضية نظام شامل صار قريبا من حالة الاكتمال؛ فعلاوة على شرائحه السياسية الفوقيه التي ستؤلف الحكومة، تساعده مجموعات من النخب الاقتصادية والعسكرية والأكاديمية ومنظومة من البنى التحتية التي تسهم في بناء هذه المؤسسة العنصرية الفاشية. إنها سيرورات بدأت تتقدم وتتطور بمنهجية مُحكمة منذ سنوات، حيث برزت من دعائمها المؤثرة شبكة من الجمعيات المدنية التي تختص كل واحدة منها بتغطية قطاع من قطاعات معيشة أبناء المجتمع العربي، ولاحقت وستلاحق العاملين فيه وفق مجموعة من القوانين القائمة والجديدة، بينما تعززها ميدانيا الدوريات المدنية المسلحة المرخصة المدعومة من قبل الدولة، التي انشئت في بعض المدن المختلطة على غرار كتائب المستوطنين، أو من كانوا يسمون «شباب الهضاب». سوف تعيش البلاد حالتين من الحرب: ففي الأراضي الفلسطينية المحتلة ستسود لغة البارود والدم؛ بينما سنواجه نحن، المواطنين العرب، في جميع أماكن عملنا وتحركنا ووجودنا، حربّا باردة، وسيكون عمادها ما ستنتجه الكنيست من قوانين عنصرية وفاشية في مسعى خبيث منها لمحاصرتنا في جميع مناحي حياتنا، بهدف إجبارنا على أن نختار طريقنا وفق إيقاعات طبول الفاشية: استسلموا كي تسلموا، أو هاجروا كي تغنموا، أو قاوموا كي.. لا اعرف من سينظم الجماهير ويضبطها عندما سيكتب على مجتمعنا، لاسيما الشباب فيه، خيار المقاومة؛ فالأحزاب والحركات العربية الناشطة بيننا، تلك التي دخلت الكنيست وتلك التي خارجها، أثبتت أنها غير قادرة على إنجاز هذه المهمة، ومثلها كانت سائر المؤسسات القيادية التقليدية، التي باتت عاجزه عن احتواء الأزمة ومواجهة المأساة؛ فمن سيقود الدفة ومن سيكون في قلب النار عندما ستستعر الحرب بيننا، لا أعرف! «فالحق الحق أقول لكم أنه ستأتي ساعة وهي الآن حاضرة» حين ينام النخباء والنجباء ويصمت العقلاء والظرفاء وتتدفق الحماسة ويتمادى التنظير ويستقوي التفهاء. فالساعة الآن حاضرة.
كاتب فلسطيني