استكمال مشروع الدولة بعد سلام الإبراهيميين..!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

وصلنا إلى تفسير صعود دولة المستوطنين كنتيجة لإحساس نخب الدولة بأن مشروعها لم يكتمل بعد. وهذا يصدق على اليسار واليمين، مع استثناءات قليلة في أوساط اليسار. ويعنينا، الآن، الكلام عن تفسير وجود القوميين الدينيين، والصهيونية المتدينة، واليمين العلماني في آخر تجلياته الليكودية (كلها تسميات متداخلة، ويصعب تمييزها دون الدخول في تفاصيل لا تعني القارئ العام) كطليعة لمشروع الاستيطان في الأراضي المحتلة في 1967.
تتمحور أبرز التفسيرات المتداولة حول فكرة أن الصهيونية العملية، العلمانية، العمالية، أو صهيونية بن غوريون، والعماليين، الذين وضعوا مداميك الدولة، وأعلنوا قيامها، وتربعوا على سدة الحكم فيها، على مدار ثلاثة عقود لاحقة، فقدت الزخم وقوة الدفع خلال الفترة المذكورة.
لذا، قفز المستوطنون، بصورتهم الحالية، إلى مقدّمة الصفوف، وحلوا محل الطليعي التقليدي، الاشكنازي، العمالي، العلماني (من أوروبا الشرقية في أغلب الأحيان) لترجمة الصهيونية في الأراضي المحتلة بعد 67. وفي السياق نفسه، ترك الانتصار، الذي يُقاس بتعبيرات توراتية تماماً، في ذلك العام، أثراً دائماً على أيديولوجيا حركة الاستيطان الجديدة.
ويمكن للمعنيين بالأدب، على نحو خاص، العثور في رواية يعقوب شبطاي "الماضي المستمر" على مجازات مناسبة تلخّص صعود حركة العمل وانهيارها، وصعود اليمين الجديد. لم يشهد شبطاي المستوطنين، في صورتهم الحالية، ولكن أفكاره الأساسية ما زالت في صميم الكثير من الفرضيات السياسية، والسوسيولوجية المتداولة، بشأن سقوط العماليين.
على أي حال، كان الكيبوتس الاشتراكي أيقونة مستوطني ما قبل الدولة، وما بعدها بقليل. وبالنسبة للصهيونيات القومية والمتديّنة، والمُهجّنة من هذه وتلك، صارت المستوطنة أيقونة مشروع الاستيطان بعد 67. ابتكر العماليون خرافة الصابرا، المولود في البلاد، قليل التعليم والثقافة، كثير القوة والإصرار، الفلّاح المسلّح (خلافاً لليهودي القديم في "المنفى"). واليوم، يبتكر المستوطنون خرافة شبيبة التلال، والرعاة، وطلّاب المدارس الدينية المسلّحين (بما يشبه إعادة الاعتبار لليهودي، مع الحفاظ على هويته، وبعد تخليصه من شرط المنفى).
بيد أن هذا كله، لن يكون مفهوماً دون التفكير في أمور من بينها أن "الإحساس باكتمال مشروع الدولة، أو عدمه" لا ينشأ في المعمل السياسي والأيديولوجي، معزولاً عن الواقع، بل تفرض شروط خارجية مادية، ووثيقة الصلة بموازين القوى، ما يتجلى فيهما من تحوّلات موضوعية.
لذا، حركة "إسرائيل الكبرى"، وعلى الرغم من استلهام الفوز الساحق في عام 67، لم تنتقل من الأفكار، والمشاعر، إلى البيانات، والتنظيم، والتحريض والتجنيد، إلا بعد زيارة السادات إلى القدس، وخروج مصر من الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي بطريقة رسمية. وبالقدر نفسه، لم تتسارع حركة الاستيطان في الضفة الغربية، على نحو خاص، إلا بعد أوسلو.
يمكن للمعنيين بالأرقام عقد مقارنات بين أعداد المستوطنين في أواسط التسعينيات، مثلاً، وأعدادهم في الوقت الحاضر. وكذلك عدد المستوطنات، ومساحة الأرض التي تحتلها، وتتوسّع في محيطها. وفي الوقت الحاضر، توجد جامعات ومدارس دينية في المستوطنات، وفي الكنيست والحكومة، وكذلك في أوساط النخبة، ومؤسسات الدولة، أشخاص وُلدوا وترعرعوا في المستوطنات، أو انتقلوا للعيش فيها.
لذا، يمكن الخروج باستنتاجات سياسية وسوسيولوجية كثيرة وخطيرة، استناداً إلى معطيات كهذه. وتوجد، في الواقع، سجالات وأدبيات وثيقة الصلة. ولكن ما يستحق الاهتمام، ولا يحضر في السجالات ذات الصلة، بل وغالباً ما نعثر عليه بصورة مشوّهة تماماً، هو تأثير التحالف الإبراهيمي، وفيه (أعضاء لم يوقّعوا بعد، وحقيقة صعود إسرائيل كقوّة إقليمية، وحامية للإبراهيميين) على مشروع الاستيطان، واستكمال مشروع الدولة الإسرائيلية.
فرضيتي الرئيسة، في هذا الشأن، أن السلام الإبراهيمي لا يقل أهمية عن انسحاب مصر من الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، وأن الاستيطان، ومعه الإحساس بعدم اكتمال مشروع الدولة، قد اكتسبا زخماً، وقوّة دفع إضافيين، ولن ننتظر طويلاً، في الواقع، قبل العثور على التجليات الحقيقية، بعيدة المدى، والكارثية، للسلام الإبراهيمي على الفلسطينيين.
والمهم، أيضاً، طالما أن عبارة من نوع "تصفية القضية الفلسطينية" يتم تداولها في سياقات مختلفة هذه الأيام، أن "التصفية" (لن تنجح، وهذا موضوع يطول شرحه) لن تكون ممكنة، في نظر الإسرائيليين، دون غطاء وتمويل إبراهيميين.
ومع ذلك، في وجود الغطاء والتمويل الإبراهيميين، على طريق التصفية، ما ينطوي على مسألة إشكالية، ومعقّدة. فالغطاء يشجّع المستوطنين لا على التوسّع وحسب، بل وعلى مزيد من العنف، أيضاً. وفي مجرّد اختراقهم لمفاصل الدولة، وبيروقراطيتها، المدنية والعسكرية، ما يعني تآكل قدرة الدولة على كبح جماحهم من ناحية، وصعود أكثر استيهاماتهم التوراتية جموحاً من ناحية ثانية. وهذه أخبار سيئة في الحالتين. ففي وضع كهذا ما يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمال الحرب الأهلية لا في الضفة الغربية وحسب، بل وفي فلسطين الانتدابية، أيضاً.
يبدو تعبير "أهلية" إشكالياً، فالحروب من هذا النوع تقع بين جماعات تنتمي إلى الشعب نفسه. وهذا لا يصدق على جماعة المستوطنين التي لا ينحصر عنفها في الضفة الغربية، بل يتعداه إلى داخل ما يُعرف "بالخط الخضر". ما وقع في المدن المختلطة، هناك، قبل أشهر، وما يقع يومياً في الضفة الغربية مجرّد علامات على الطريق. وهذا غيض من فيض.