النّقاش المشروع والضّروري في شأن عمليّة التّفجير في القدس

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

بقلم ماجد كيالي

لقي 203 من الفلسطينيين مصرعهم برصاص الجيش الإسرائيلي منذ بداية عام 2022 حتى الآن، 150 في الضفة، و52 في غزة، مقابل 29 من الإسرائيليين. ويعتبر هذا الرقم عالياً بالنسبة للإسرائيليين، قياساً بالأعوام السابقة، ففي عام 2021 قتل 21 إسرائيلياً، وفي 2020 قتل ثلاثة، وفي 2019 قتل 12، وفي 2018 قتل 16، وفي 2017 قتل 18، وفي 2016 قتل 17، وفي 2015 قتل 29". ("يديعوت أحرونوت"، 24/11/2022)، وأيضاً بحكم تقليص فرق الخسائر البشرية، التي كانت عالية في السنوات السابقة، لمصلحة إسرائيل، إذ كان هناك قتيل إسرائيلي واحد مقابل 21 فلسطينياً، فيما باتت هذا العام إسرائيلياً واحداً مقابل سبعة فلسطينيين. 

 

مع ذلك، فإن هذا الوضع لا يغطي الواقع، فإسرائيل ذات جبروت عسكري، وتهيمن على الفلسطينيين ومواردهم وحركاتهم، فقد بلغت خسائر الفلسطينيين البشرية خلال الأعوام من 2006 ـ 2021، بما فيها الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة (مع ضحايا مسيرات العودة بين 2018 ـ 2019) 7269 فلسطينياً، بمعدل 484 فلسطينياً سنوياً، مقابل خسارة إسرائيل 340 إسرائيلياً، بمعدل 23 سنوياً، أي أن خسائر الفلسطينيين كبيرة جداً بمقدار 21 ضعفاً (إسرائيلي واحد مقابل 21 فلسطينياً)، علماً أن عدد الجرحى من الفلسطينيين بلغ 104919، أما عند الإسرائيليين فبلغ 3143، أي أن الجرحى الفلسطينيين يشكلون 23 ضعف الجرحى الإسرائيليين، علماً أن إصابات الفلسطينيين أشد أو أكثر ضرراً.

 

ما حصل في العام الحالي هو موجة عمليات فدائية جريئة، استخدمت فيها غالباً أسلحة نارية، واتسمت بالفردية، والاستقلالية عن الفصائل، استهدفت غالباً جنوداً ومستوطنين، وشملت أحياناً مدناً إسرائيلية، بادر إليها أشخاص من الجيل الشاب، أغلبهم نشأ بعد الانتفاضة الثانية (2000ـ 2004)، وهي امتداد للموجات التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 2015، واتسمت بالفردية، أيضاً، لكن مع استخدام السكاكين والدهس، وكلها تعتبر امتداداً للهبات الشعبية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية، لا سيما في القدس.

 

في هذا الإطار، يمكن احتساب ثلاث عمليات في شهر آذار (مارس) من هذا العام، نفذ الأولى محمد أبو القيعان في بئر السبع، قتل فيها أربعة جنود، والثانية نفذها إبراهيم وأمين أغبارية في الخضيرة (قرب تل أبيب)، وقُتل فيها إسرائيليان، والثالثة نفذها ضياء حمارشة (من جنين) في بني براك (قرب تل أبيب) وقتل فيها خمسة إسرائيليين. وفي نيسان (أبريل) نفذ رعد حازم (مخيم جنين) عملية في تل أبيب، استنفرت الجيش والأمن، وأدت إلى مقتل 3 إسرائيليين وجرح 15 منهم، وشهد شهر أيار (مايو) عملية نفذها الأسيران أسعد الرفاعي وصبحي عماد في مستوطنة إلعاد شرق "تل أبيب"، قتل فيها 3 وأصيب 4 من الإسرائيليين. أيضاً، فقد شهد شهر تشرين الأول (أكتوبر) تنفيذ 3 عمليات، ففي 8 منه نفذ الشهيد عدي التميمي، من مخيم شعفاط (قرب القدس)، عملية في القدس المحتلة أسفرت عن مقتل إسرائيلي وإصابة اثنين، وفي 11 منه نفذت مجموعة "عرين الأسود" (نابلس) عملية قرب مستوطنة شافي شمرون شمال غرب نابلس، أدت إلى مقتل إسرائيلي. وفي 15 من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري قام محمد صوف بتنفيذ عملية طعن في مستوطنة (أرئيل) المقامة على أرض مدينة سلفيت شمال الضفة الغربية المحتلة، وقتل خلالها ثلاثة مستوطنين وأصاب ثلاثة آخرين بجروح خطيرة.

 

بعد كل تلك العمليات أتت عمليتا التفجير في القدس (23 من هذا الشهر)، في محطتين للحافلات، نجم عنهما مصرع إسرائيلي واحد وإصابة 22 بجروح، باستخدام متفجرات، وبهدف عشوائي، بخلاف العمليات التي تركزت في استهداف عسكريين ومستوطنين. أيضاً، فإن العمليات السابقة بادر إليها شباب مستقلون، اتسموا بالجرأة، فيما توحي هذه العملية بأن ثمة جهة ما وراءها، غالباً، من دون أن يعرف أحد توظيفاتها في هذه الظروف.

 

على أي حال، فإن إسرائيل، بإصرارها على الاستمرار بسياساتها الاحتلالية والعنصرية والقمعية، ضد الفلسطينيين، وضمن ذلك حؤولها دون إمكان إقامة دولة لهم في الضفة والقطاع مع مواصلتها الاستيطان ومصادرة الأراضي والاعتقال وانتهاك المقدسات، هي المسؤول الأساسي عن كل ما يجري، فهي المتسببة بحال المعاناة والقهر والظلم والغضب التي تعتمل في قلوب الفلسطينيين منذ عقود، منذ إقامة إسرائيل (1948)، والذي تفاقم بعد احتلالها الضفة والقطاع (1967)، لذا فإن المقاومة هي بمثابة رد فعل طبيعي على كل تلك السياسات، بحسب تاريخ الشعوب، والأعراف والمواثيق الدولية. بيد أن الحديث عن المقاومة يثير مسائل عدة:

أولاً، إدراك عدم اقتصار المقاومة على العمل المسلح لجماعات عسكرية، إذ الأجدى، والأصوب، أن تكون مقاومة شعب بالوسائل المتاحة، أي التي تتسم بالديمومة، والتي تمكنها من استنزاف عدوها لا تمكينه من استنزاف شعبها، بتسهيل استخدام تفوقه الطاغي (بالآلة العسكرية)، وبحيث لا تحمل شعبها فوق ما يحتمله، في ظروف دولية ومحلية غير مواتية. 

 

ثانياً، لنلاحظ أن مقاومة الشعب الفلسطيني هي نتاج تجربة طويلة ومضنية ومكلفة، عمرها مئة عام (57 سنة عمر التجربة الوطنية المعاصرة)، ما يعني أن المطلوب من قيادات المقاومة (وعموم الفلسطينيين) دراسة هذه التجربة واستخلاص الدروس المرجوة منها، وهو الأمر الذي لم يحصل، بدليل افتقاد الفلسطينيين استراتيجية عسكرية، مناسبة وواضحة وممكنة، وبدليل التخبط في المقاومة بين العفوية والمزاجية، بين عمليات تفجيرية، وقصف صاروخي، وعمليات فدائية، وهبات وانتفاضات شعبية، من دون أي ترابط، ومن دون التمكن من وضع التضحيات والبطولات في إطار الاستثمار في إنجازات سياسية ملموسة.

 

ثالثاً، ثمة ملاحظة مهمة مفادها أن خسائر إسرائيل البشرية، والمعنوية، من عمليات فدائية متفرقة، نفذها شباب أفراد، من دون تمكين إسرائيل من شن حملة عسكرية مدمرة ضد الفلسطينيين، فاقت خسائر إسرائيل من عمليات صاروخية، وهو ما يذكّر بعملية "وادي الحرامية" (بين نابلس ورام الله - آذار/مارس 2002)، التي نفذها ثائر حماد، ببندقية بدائية واستطاع وقتها قتل 11 إسرائيلياً. هكذا، لنلاحظ، مثلاً، الحروب على غزة، ففي الحرب الأولى، وقد استمرت 23 يوماً (أواخر 2008)، قتل 13 إسرائيلياً، وفي الثانية واستمرت ثمانية أيام (2012) قتل ثلاثة إسرائيليين، وفي الحرب الثالثة، واستمرت 50 يوماً، قتل 70 إسرائيلياً (منهم 8 بالقصف الصاروخي)، وفي الحرب الرابعة على خلفية هبة القدس والدفاع عن حي الشيخ جراح (2021)، واستمرت 11 يوماً قتل 12 إسرائيلياً، وفي الحرب الخامسة (آب /أغسطس هذا العام)، وخاضتها حركة "الجهاد الإسلامي" وحدها بالقصف الصاروخي، واستمرت ثلاثة أيام لم يُقتل أحد.

 

وطبعاً فإن إسرائيل تعمدت، في كل تلك الحروب، قصف مدن قطاع غزة قصفاً همجياً ومدمراً، ما نجم عنه خسائر باهظة جداً في الأرواح والممتلكات وفي البنى التحتية. وكما شهدنا فإن التحول نحو الحرب الصاروخية قطع الهبة الشعبية، التي شملت فلسطينيي 48 هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة، كما أدت إلى استهداف فلسطينيي 48 من الإسرائيليين، مدنيين وعسكريين، في بلداتهم وقراهم. ولعل ظاهرة صعود بن غفير، وحزبه الفاشي المتطرف، هي نتاج بعض تداعيات تلك المواجهات، علماً أن بن غفير سيأخذ وزارة الأمن الداخلي، مع توسيعها بحيث تشمل إنشاء ما يسمى الحرس القومي، وغايته منع أي هبة أو حراكات شعبية للفلسطينيين، لا سيما في 48؛ وكان الجدار الفاصل، ونشر النقاط الاستيطانية والطرق الالتفافية، وفك الارتباط مع غزة وفرض الحصار المشدد عليها، هي رد فعل إسرائيل على العمليات التفجيرية إبان الانتفاضة الثانية (2000ـ 2004)، لا سيما عمليتي مطعم سبارو وملهى الدلافين في القدس (صيف 2001)، التي جرى بعدها فرض الحصار على ياسر عرفات في مقره في رام الله، وكل ما حصل بعد ذلك.

 

باختصار، المقاومة عمل سياسي بامتياز لبشر، ويفترض نقده ونزع القداسة عنه، وإخضاعه لاستراتيجية سياسية وعسكرية، وإلا سيقع في فِخاخ ومخاطر، تفيد إسرائيل. يأتي ضمن ذلك اختطاف فلسطيني من "مواطني" إسرائيل، بدعوى أنه إسرائيلي كما حصل أخيراً (مع الأسف)، علماً أن ذلك يضر بوحدة الشعب الفلسطيني، وبصورته، وعدالة قضيته، كما ينضوي في ذلك سقوط قذيفة على بيت في غزة، أو استهداف مدنيين إسرائيليين، سبق أن أكد خالد مشعل (زعيم حركة "حماس" سابقاً) تجنب حركته ذلك (2014)، كما سبق لحركة "الجهاد" أن تجنبت ذلك في عملية استهدفت عسكريين (قضى 11 منهم)، وتجنبت المدنيين/المتدينين. 

 

آن للفلسطينيين دراسة واقعهم ومراجعة تجربتهم بطريقة نقدية، وضمنها إدراك أن المقاومة هي فعل شعبي ومسؤول، وتتطلب اختيار شكل المقاومة الممكن والأنسب والأجدى، بحسب الإمكانات والمعطيات، وضمنها الاستثمار في التناقضات الإسرائيلية لا توحيد الإسرائيليين حول أقصى اليمين المتطرف. أيضاً، وفي الغضون، يُفترض إدراك طبيعة الظرف السياسي، الدولي والمحلي، فما الذي تملكه الفصائل في حال قيام إسرائيل، مع حكومة فاشية متطرفة، بمحاولة لاقتلاع فلسطينيين من هذه المنطقة أو تلك، في القدس أو الخليل، أو أي مكان آخر؟ هل ثمة حصانة للفلسطينيين إزاء أي خطة "ترانسفير" جديدة (لا سمح الله)، مع معايشتنا لتشريد ملايين السوريين، من بلدهم أمام سمع العالم وبصره؟