لم تتوقف سلطات الاحتلال عن اقتحام المدن الفلسطينية واغتيال من تعتبرهم «مطلوبين»، ولم تتوقف اعتداءات المستوطنين بما في ذلك ارتكابهم جرائم قتل.. وهذه الجرائم تتم بشكل شبه يومي، ومنذ قيام إسرائيل، فهذه طبيعة الاحتلال، قبل وبعد سيطرة اليمين المتطرف.
في المقابل، كلما قُتل مواطن فلسطيني (بالإضافة لردة الفعل الشعبية والرسمية، التي تستنكر وتدين الجريمة، وتقوم بفعاليات احتجاحية مختلفة) تخرج بعض الأصوات لتنادي بحل السلطة، لأنها عاجزة عن حماية مواطنيها! أو على الأقل تطالبها بالرد. والرد المطلوب هنا هو تصدي الأجهزة الأمنية للجيش والمستوطنين.
بداية، لا شك بأن السلطة مطالبة بالرد وحماية مواطنيها، وهي التي تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية باعتبارها الجهة الحاكمة (حتى لو كان حكمها منقوصا).. ولكن الجدال حول طبيعة هذا الرد، وفاعليته، وتداعياته.
في أكثر من مرة تصدت قوات الأمن الوطني لجيش الاحتلال، وأعاقت دخوله للمدن الفلسطينية، وأفشلت مخططاته، وحصلت اشتباكات مسلحة، وسقط ضحايا.. ولكن في عشرات المرات دخل الجيش مناطق تسيطر عليها السلطة، ولم تتصد له الأجهزة الأمنية.. وهذه وقائع حصلت فعلا وليست تحليلا ولا استنتاجا.. والسؤال المطروح: لماذا لا تتصدى الأجهزة الأمنية لقوات الاحتلال في كل مرة؟ هذا سؤال مشروع، لكنه يحتاج إجابة أمينة وصادقة وموضوعية، دون مزايدات، ولا اتهام، ولا ادعاءات زائفة.
جميعنا يعرف الخلل الفادح في موازين القوى، والفروقات الهائلة في الإمكانيات والقدرات، وأن جيش الاحتلال حين يقتحم منطقة بعدة دوريات، يتقدم ومن خلفه جيش كامل، وعلى أهبة الاستعداد.
طبعا، ليس مطلوبا إرسال أبنائنا للموت المجاني، وفي مواجهات خاسرة حتما.. ولكن، يجب ألا تكون الاجتياحات الإسرائيلية سهلة ومتاحة وكأنهم في نزهة.. وهذا يحتاج قرارا سياسيا، سيتطلب بالضرورة وقف «التنسيق الأمني»، والكف عن ملاحقة نشطاء المقاومة.. ومع ذلك، وحتى لا نقع في الوهم، يجب أن ندرك أن وقف التنسيق الأمني، وتصدي الأمن الوطني للجيش ليس كافيا لحماية مواطنينا؛ فالسلطة تسيطر على جزء بسيط من الضفة الغربية، هذا أولاً، وثانياً: هكذا حلول عسكرية ليست بالأمر الهين، والوضع السياسي الراهن لا يحتمل ذلك، والمغامرات غير المحسوبة تؤدي غالبا إلى مزيد من الخسائر والهزائم.. دون أي فائدة. ولنا في انتفاضة الأقصى الكثير من العبر.
وهذا لا يعني أبدا السكوت والرضا، والاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة. فالسلطة تمتلك الكثير من أدوات المواجهة: التوجه للمحكمة الجنائية الدولية، المطالبة بحماية دولية، طرح كل جريمة احتلال أمام المحافل الدولية، تنشيط الدبلوماسية الخارجية، تحرك إعلامي نشط وذكي، التوجه للأشقاء العرب، تنشيط الحكومات والمنظمات والأحزاب الحليفة والمؤيدة.. وأيضا، وحتى لا نقع في شراك الوهم، يجب أن ندرك أن كل التحركات السياسية والقانونية والدبلوماسية والإعلامية ورغم أهميتها، لن توقف العدوان، ولن تلجم إسرائيل.. هي مطلوبة طبعا، ولكنها تعطي نتائج محدودة، وتحتاج مراكمات وعلى مدى زمني طويل حتى تؤتي أكلها، وتشكل جبهة ضغط عالمية على إسرائيل.
إذاً، ما الذي يلجم إسرائيل؟ ومن يوقف آلة القتل؟ وكيف نضع حداً لاعتداءات المستوطنين؟
الإجابة قطعا هي إنهاء الاحتلال.. ولكن كيف؟ وقبل أن ننهي الاحتلال، كيف نواجهه؟ وما هو شكل وأسلوب المقاومة القادرة على ذلك؟
وهذه أسئلة كبيرة، ومن السذاجة تسطيحها بإجابات سريعة وعبارات جاهزة.. تحتاج بناء إستراتيجية وطنية فلسطينية شاملة.. ولا مجال للخوض في تفاصيلها هنا، وللتسهيل على القارئ سأكتفي بالإشارة إلى ضرورة اعتماد المقاومة الشعبية، وتبني خطاب إعلامي وخط سياسي وطني يرتكزان على المقاومة والوحدة الوطنية.
وبالعودة لموضوع المقاومة وصد العدوان، من الخطأ الاعتقاد بأنها مسؤولية السلطة وأجهزتها فقط، المسؤولية في الأساس على عاتق الجماهير (بما في ذلك الفصائل والمنظمات والمؤسسات المدنية والأهلية).. فهذا قدر الشعب الفلسطيني، والذي لم يتأخر عن ذلك، ولم يبخل بالدماء والتضحيات.
ومع ذلك، يجب الانتباه للأخطاء التي كثيراً ما نقع بها: فمثلا بمجرد سقوط شهيد، تخرج أصوات تدين السلطة والتنسيق الأمني و»القيادة المتخاذلة».. وهنا تتم تبرئة الاحتلال من جريمته، وتحويل الاتهام إلى السلطة.. أو تحويل الرأي العام، بدلا من صب غضبه وتوجيه فعله ضد الاحتلال، يتم توجيههما نحو السلطة!
مسألة أخرى تتعلق بطريقة التفاعل مع الحدث: نبدأ بالمطالبة بالثأر والانتقام! المقاومة الفلسطينية ليست ردة فعل عاطفية لأخذ الثأر، وجريمة الاحتلال لا تقتصر على قتل مواطن أو أكثر.. الجريمة الأساسية والأهم تتمثل في وجود الاحتلال نفسه، وبالتالي المطلوب أن تكون المقاومة فعلا دائما ومستمرا (وليس موسميا، ولا ردات فعل)، ومبنية على إستراتيجية طويلة الأمد.
ثانياً: جريمة قتل مواطن «عادي» لا تقل عن جريمة قتل قائد ميداني، وليس هناك شهيد أهم من شهيد.
ثالثاً: يجب إعادة النظر في الخطاب الإعلامي السائد؛ وتسمية الأمور بمسمياتها القانونية والأخلاقية: فما حدث هو جريمة قتل مكتملة الأركان، فنقول «قتلت سلطات الاحتلال فلانا»، ولا نقول استشهد فلان، وكأنّ الفعل مبني للمجهول.. كلمة «قتل» تثير الغضب الشعبي، وتُبنى عليها أفعال سياسية وقانونية وإعلامية كثيرة ومهمة، بينما كلمة «استشهد» تأتي تلطيفا لجريمة القتل.
وعلينا أن نكف عن تقديس الشهادة بهذا الشكل الجمالي، ليس لأن الحياة والتمسك بها حق طبيعي لكل إنسان، ولأن الموت شيء بشع وقاسٍ مهما كان اسمه؛ بل لأن تقديس الشهادة على هذا النحو يجعل تقبل الموت شيئا طبيعيا، بل مطلوبا ورائعا.
ما يحدث فعليا أن الإعلاميين سيتسابقون على إجراء مقابلة مع والد الضحية، وإظهار تماسكه وصلابته (والقول على لسانه ما يريد الإعلامي قوله)، وتصوير الأم وهي تزغرد (وكأنها فرحة بذلك)، وترديد مقولات بأن «الضحية» طلبَ الشهادة فنالها، وأنه كان يتمناها.
صحيح أن الوالدين سيفخران بابنهما الشهيد، لكنهما موجوعان بألم الفقد ومفجوعان بفداحة الخسارة، ويجب احترام مشاعرهما، وعدم تجاهل تفاعلهما الإنساني، فهذا ليس ضعفا، هذه قمة الإنسانية.
في الوعي الجمعي تقوم مصطلحات «الشهادة»، و»الشهيد» بامتصاص النقمة والغضب.. على الفور سيتبادر إلى الأذهان بأن الشهيد حاليا في الجنة، وسيشفع لأهله، فيسري في العروق بعض الطمأنينة والسكينة ومشاعر الغبطة تجاه الشهيد، وتختفي مشاعر الغضب الحقيقي الذي ينشأ فقط في حالة مقتل فلسطيني على يد شخص من عشيرة أخرى.. في تلك الحالة فقط تهبّ كل البلد، ونرى البنادق والرشاشات والاشتباكات المسلحة والتي تدوم لأشهر وسنوات.. بينما خبر الشهيد وأثره وذكراه والمطالبة بدمه تختفي فعليا في اليوم التالي!
الشهادة بحد ذاتها ليست مطلباً، هي نتيجة مأساوية لفعل بطولي، وأحيانا دون أي فعل.. وتبجيل الشهداء يختلف تماما عما نفعله بحقهم.. وبحق قضيتنا.