في أزمنة ما قبل الحداثة، لم تكن الدولة بالشكل والمحتوى الذي نعرفه اليوم، رغم أن الدول آنذاك كانت أكبر وبمساحات شاسعة وممتدة. ببساطة كانت الدولة عبارة عن حاكم مستبد يتمحور من حوله كل شيء: النخبة الاقتصادية، والجيش، ورجال الدين، والشعراء، والرعية.. تطور هذا النموذج من «دولة القبيلة» التي كانت تحدد مناطق نفوذها بالسيف وتصفية القبائل المنافسة لها على الكلأ والماء، فصارت «الدولة الإمبراطورية» التي وسّعت مناطق نفوذها بجيش لا يقتصر على أولاد العمومة، وصار الصراع على ما هو أثمن من العشب وآبار المياه.
ومع تقدم الزمن، تطور الجهاز البيروقراطي للدولة، وصار يضم جيشاً محترفاً، ومجلس قيادة، أشبه بحكومة مصغرة، وبعض الهياكل الإدارية والتي تنصبّ جميع مهامها في خدمة الحاكم وحاشيته.. صحيح أن تلك الدول اهتمت بالعلوم والصناعات وإقامة المنشآت، وحتى بالفنون، ولكن بما يحقق للسلطة الحاكمة الأمن والاستقرار والمنعة، ومظاهر العظمة.. والمفيد هنا أنّ الآثار الجانبية لأعمال التطوير والبناء وبقايا المنافع كانت أحياناً تنعكس إيجاباً على الشعب، الذي لم يكن في عين السلطة سوى أفراد يمكن الاستفادة منهم وقوداً للحروب، أو أيدي عاملة (غالباً شبه مجانية)، أو ما تدره محاصيلهم وما يُجنى منها على شكل جباية وضرائب، ومن يعترض (وغالباً لا أحد يعترض) فليس أمامه سوى المقصلة أو حد السيف.
في عصر الحداثة وبعد نشوء الدولة الوطنية، صار للدولة تعريف جديد، من الناحية النظرية، الدولة هي جهاز بيروقراطي مهمتها وغايتها رعاية شؤون الشعب، وحماية مصالحهم.. ويمكن إضافة بعض الجمل المنمقة التي تجمّل من شكل الدولة، ونظمها، وفلسفتها، وقوانينها، وأنّ الإنسان هو محورها وغايتها الأسمى، وأنها لا تميز بين الرعية، وأنها تفصل بين السلطات، وتسعى لضمان سيادة القانون، وتحقيق العدالة، وتوفير الأمن، والحرية، والرفاهية، وأنّ الحاكم خادم للشعب.. ومثل هذه الديباجات ستجدها في دساتير معظم الدول، حتى كوريا الشمالية.
لكن، تاريخياً وواقعياً، الأمر مختلف كلياً، وكل ما ورد أعلاه مجرد كلام، وشعارات، ويمكن المجازفة بالقول: إنه لم يحدث على مدار التاريخ أن قامت دولة بتبني تلك الشعارات بشكل حقيقي، ومخلص، إلا في الحالات التي تضطر إلى ذلك، وهذا لم يحدث إلا مؤخراً، في بعض الدول الديمقراطية، وبعد مخاض عسير، ضمن تجربة ما زال يشوبها بعض العيوب والنواقص.
ولتوضيح ذلك يقول جورج أورويل في روايته (1984): «ما من أحد يمسك بزمام السلطة وهو ينوي التخلي عنها.. إن السلطة ليست وسيلة بل غاية.. القائد لا يقيم حكماً استبدادياً لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي. إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، وغاية السلطة هي السلطة. هل بدأت تفهم ما أقول الآن؟».
بمعنى أن أي مجموعة تستولي على السلطة بأي طريقة، سواء بالوراثة، أو بالانقلاب، أو بثورة شعبية، أو بانتخابات ديمقراطية، في جميع الأحوال تتحول تلك المجموعة إلى سلطة حاكمة، وتدريجياً تبدأ أمراض السلطة تدب في أوصالها، وتبدأ بالتنكر لشعاراتها وأهدافها، وحتى لمنتخبيها، ولمن ضحوا بدمائهم في سبيل تلك الأهداف.
وما يحدث فعلياً أن الرئيس أو الملك أو الزعيم سيشكل من حوله طبقة سياسية مكونة من الرأسماليين، والجنرالات، وما يحتاجه من كبار الموظفين (وزراء وبرلمانيين وقضاة)، ورجال دين، وإعلاميين، ومن يتحالف معهم من صغار البرجوازيين والكومبرادور وشرائح اجتماعية انتهازية. وهذه الطبقة تصغر وتكبر ويتغير شكلها بحسب الحقبة الزمنية ومعطيات عصرها، لكن جوهرها واحد؛ فتلك المجموعة الحاكمة ستجعل من الدولة (بمقدراتها وقوانينها وشعاراتها وشعبها) أداة طيّعة بيدها.
وستتبلور لهذه الطبقة مصالح مشتركة، ومزايا عديدة يستفيد منها كل شخص بحسب مكانته في النظام، والدور المنوط به، وصلة قرابته. والشعب (كما هو تاريخياً) من وجهة نظر النظام عبارة عن جنود، ودافعي ضرائب، ومستهلكين، وأصوات انتخابية تمنح النظام شرعية شكلانية، أو تمهد لدخول شرائح أخرى جديدة إلى التحالف الطبقي الحاكم، بما في ذلك قوى المعارضة، التي تتماهى مع النظام وتستفيد من مزاياه، كما يستفيد منها النظام بمنحه شكلاً ديمقراطياً مقبولاً.
وكل ما يتلقاه الشعب من خدمات، وما تبنيه الدولة من بنية تحتية، وما يتحقق من تطور وصناعات، تقدمه السلطة الحاكمة بالقدر والشكل الذي يثبّت أركان حكمها، ويحمي مصالحها، ويضمن سكوت الشعب ورضاه.. باستخدام آليات السيطرة والتحكم، وهي: الإعلام الرسمي، وتوظيف الدين، وتفسير القوانين وتطبيقها وفق مصالحها.
ومع الوقت ترسخ الطبقة الحاكمة أركان حكمها، وتؤسس ما يُعرف بالدولة العميقة، وحتى لو انهارت الطبقة الحاكمة وأتت سلطة جديدة، فإنها ستجدد بنية النظام القديم.. وهنا نرجع مرة ثانية إلى «أورويل» في روايته مزرعة الحيوان، لنرى كيف يتحول المظلوم إلى ظالم، والثائر إلى مستبد بمجرد تنعمه ببعض مزايا السلطة.
وفي الواقع، أي سلطة جديدة ستصطدم بالحقائق التالية:
أولها: أركان النظام السابق الذين ظلوا يسيطرون على الاقتصاد، والإعلام، والأمن، ومرافق الدولة المهمة ومواردها، وثانيها: معطيات الواقع وتحدياته التي ستتكشف أمامهم دفعة واحدة، فيتبين لهم أن الشعارات شيء، وتطبيقها شيء آخر، وأن الواقع أكثر تعقيداً وصعوبة مما كانوا يظنون. وثالثها: طبيعة النظام الدولي والإقليمي، واشتراطاته وقوانينه. ورابعاً، وربما الأهم، أن أهداف ومصالح النظام في وادٍ، وأهداف ومصالح الشعب في وادٍ آخر، والتحدي القائم هو شقّ قنوات وبناء جسور بين هذين الواديين.