الدولة، النظام السياسي (2 - 2)

تنزيل (20).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

تريد السلطة، مُطلق السلطة، فرض النظام والأمن، وهنا تلجأ عادة إلى القمع والتنكيل. تريد حماية مصالح ومكتسبات الطبقة الحاكمة، وهذا يتطلب بالضرورة ممارسة الفساد. تريد مواطناً مستقراً مستكيناً مدجناً مطيعاً باستخدام الدين والإعلام، وتقنيات أخرى عديدة. تريد شن حرب إذا رأت في ذلك مصلحتها بصرف النظر عن مصلحة الشعب، وتريد كذلك مهادنة العدو إذا كان ذلك يثبّت حكمها بصرف النظر عن الأهداف والشعارات المرفوعة، التي ستجد من يبررها.
الشعب يريد الأمن والنظام والقانون، ولكن كل فرد يريدها على مقاسه، ووفقاً لمصلحته، ويتغاضى عنها، أو يحاربها، إذا لم تكن كذلك. الشعب يريد مقاتلة العدو بصرف النظر عن الحسابات السياسية وموازين القوى، وبعض الشرائح الاجتماعية تريد الصلح والسلام لأن في ذلك مصلحتها. كل فرد يريد حقوقه كاملة، وحريته غير منقوصة باستثناء المواطن المستقر، وبعضهم يريد المعارضة لأنّ لا شيء يعجبه، أو لأنه لم يستفد من مزايا السلطة، ويحارب الفساد لأنه أضر به، ولكنه سيدخل منظومة الفساد إذا أتيحت له الفرصة. يريد حقه في التعبير، وتحقيق ذاته، والشعور بإنسانيته وكرامته وتأمين مستقبله. يريد المشاركة في السلطة، وتغيير الطبقة الحاكمة وتجديدها، والانتخابات، والاعتراض والمساءلة، والشفافية ومحاسبة الفاسدين والمقصرين، يريد العدالة الاجتماعية والتقاسم العادل للموارد، وتكافؤ الفرص. وهذا كله يتعارض مع مصالح السلطة ونهجها.
إذاً، المسألة معقدة جداً على طرفَي المعادلة، لذا يحصل الصدام، وتنشب الثورات الاجتماعية، وتلجأ الحكومات للقمع والاضطهاد.
في التجارب المعاصرة، رأينا عشرات الحالات التي تحول فيها القادة الثوريون إلى حكّام مستبدين، علماً أنهم كانوا في بداياتهم مخلصين وصادقين. وأمثلة أخرى كان الحاكم فيها زاهداً ومتقشفاً ونظيف اليد، لكنه كان يحكم نظاماً دكتاتورياً، أو قاد بلاده إلى الهاوية.
في التاريخ العربي، شكلت دولة الإسلام في عهد النبي محمد والخلفاء الراشدين نقلة نوعية لما كان سائداً؛ فلأول مرة يمتلك العرب دولة مركزية، وجيشاً نظامياً، وجهازاً بيروقراطياً، بعد أن كانوا مجرد قبائل متناحرة، وكانت أراضيهم محتلة من قبل الجيران. لكن هذه الدولة لم تكن سوى تطور نسبي، فقد ظلت بمحتواها وقيمها وسلوكها امتداداً لعصر القبيلة، وما حدث عملياً هو أن قبيلة قريش تمكنت من بسط نفوذها وهيمنتها على بقية القبائل، واحتفظت بالرئاسة، ووحدت بقية القبائل تحت مظلتها. (راجع بتمعن حوارات سقيفة بني ساعدة، وأسباب حروب الردة).
ولما توسعت هذه الدولة، صارت بحاجة إلى نقلة أكبر وأهم: أن تتجاوز طور القبيلة، وتغدو بمستوى الإمبراطوريات، حتى تستوعب التغيير الحاصل في بنية المجتمع التي صارت أكثر تعقيداً، والمساحات الإضافية للدولة، وهذا تطلب منها تغيير بنيتها، وتطوير جهازها البيروقراطي. وهنا حصل الصدام العنيف بين مؤسس الدولة الأموية (معاوية بن أبي سفيان) وبين آخر الخلفاء (علي بن أبي طالب)، الذي أصر على التمسك بالسلطة على الأسس ذاتها، ومن الباب نفسه (القبيلة)، فكان يرى نفسه الخليفة الشرعي لأنه ابن عم النبي ووريثه. وهذا المؤهل الأبرز الذي قدم نفسه به كان متأخراً عن صيرورة الأحداث وتطورها وتقلب الأزمنة، لذا كانت الغلبة لمعاوية.
في بلدان المشرق الإسلامي، ظلت قريش ولفترة طويلة على رأس السلطة، مع تبدل رايات الخلفاء. وفي هذه العصور المتلاحقة، كانت الدولة التي سميت «الخلافة» تحكم باسم الإسلام من حيث الشكل، أما المضمون فكان دولة سياسية (دنيوية) بكل ما تتطلبه وتستدعيه من أدوات وبرامج وقيم وقوانين وممارسات. وهي في أغلبها ليس منشؤها الدين، وأحياناً متعارضة معه، وأبرز مثال على هذا التعارض مسألة التوريث والسلالة الحاكمة، والمظالم التي كان يعانيها الناس، وقمع الثورات والحركات الاحتجاجية، والترف وشبهات الفساد التي كانت تحيط بالقصور الحاكمة وساكنيها.
في أوروبا، هيمنت الكنيسة لأكثر من ألف سنة على جميع النظم الحاكمة في القارة، وأيضاً بتوظيف الدين والنصوص المقدسة، لحماية وتبرير وضمان استمرار الظلم والقمع والاضطهاد، وفساد السلطات الحاكمة.
وفي وقتنا الراهن، يمكن القول: إن جميع الدول، بما فيها التي تدعي الديمقراطية والحداثة وترفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان (مع استثناءات نادرة)، ما زالت تمارس اللعبة ذاتها، وبالمنطلقات والسياقات ذاتها، أي تكريس وحماية مصالح الطبقة الحاكمة، وعلى حساب الشعب، وكل ما في الأمر أن هذه الأنظمة استفادت من الديمقراطية، وبنتها، وفصّلتها بما يتواءم مع مصالحها، ولكن بشكل أقل وحشية.
السلطة الحاكمة - مهما كان اسمها ومشروعها - ستتراجع عن شعاراتها ووعودها بمجرد تعارضها مع مصالحها، وهي لا تمنح شيئاً، ولا تقيم عدالة، ولا تبني صرحاً، ولا ترعى حقوقاً، ولا تعبأ بالرعية إلا مجبرة على ذلك، فالحرية والحقوق والعدالة تنتزع بالنضال الشعبي، وكذلك تغيير القوانين والسياسات، والمساءلة والمحاسبة. وهذا لا يتأتى إلا بوجود قوى شعبية منظمة (نقابات، واتحادات، وأحزاب)، ومعارضة مخلصة، وصحافة شجاعة، وقضاء مستقل، ورقابة حثيثة على أداء السلطة من قبل الرأي العام، وهذا يتطلب تداولاً سلمياً دائماً ومنتظماً للسلطة.
الحاكم، حتى لو كان عادلاً وتقياً وصادقاً ونزيهاً، ستغيره السلطة، ومزاياها، وشهوتها، والطبقة السياسية المتنفذة (الدولة العميقة). ولا شيء يضمن أن يظل عادلاً ونزيهاً إلا وجود قانون قوي ومُهاب، وثقافة مدنية، وشعب واع لحقوقه وواجباته، وتلك أهم عناصر الديمقراطية الحقيقية.