وكالة "خبر" ترصد مراحل تنقل د.صائب عريقات من رئاسة المفاوضات إلى أمانة سر منظمة التحرير

عرقات
حجم الخط

صائب عريقات وُلد بمدينة القدس, وعاش طفولته القاسية التي تخلّلها العمل في شركة باصات جابياً للتذاكر, اكتمل مشهد القسوة هذا حينما اعتُقل لأول مرة في الثالثة عشر من عمره, في السجون الإسرائيلية, ولقد درس الثانوية في مدارس القدس, ثم سافر للولايات المتحدة الأمريكية ليُكمل دراسته, وتزامن ذلك مع عمله في أحد مطاعم فرانسيسكو؛ ليساعد نفسه عصامياً كمغتربٍ يُجابه صلف الحياة, وصولاً لتحقيق الإنجاز المنشود.
حصل على البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة سان فرانسيسكو الأميركية، ثم ماجستير في العلاقات الدولية 1979, ثم حصل على شهادة الدكتوراه في حل النزاعات من جامعة برادفورد في المملكة المتحدة عام 1983.
عمل صحفيا في جريدة القدس الفلسطينية لمدة 12 عاماً, وكتب مئات المقالات فيها, وعمل محاضراً بجامعة النجاح الوطنية بمدينة نابلس بالضفة الغربية المحتلة.
ولقد كان يناديه الرئيس الفلسطيني الراحل ممازحاً بـ "شيطان المفاوضات" دلالة على قدرته الفائقة على المناورة, وامتلاكه  الذكاء الكبير في طرح قضايا التفاوض والتعامل بها, كما وصفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بـ "ذاكرة المفاوضات", دلالة أيضاً على الخبرة الطويلة التي كوّنها على طيلة أكثر من عقدين من الزمان.
عريقات كان أول وزير للحكم المحلي في أول حكومة تشكلها السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات, كما كان عريقات نائباً لرئيس الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد عام 1991 وما  أعقبه من مباحثات في واشنطن خلال عامي 1992 و1993، وعُيِّن رئيساً للوفد الفلسطيني المفاوض عام 1994. وفي عام 1995 أصبح كبير المفاوضين الفلسطينيين, وانتُخب للمجلس التشريعي نائباً ممثلاً عن مدينة أريحا, في الدورة الأولى للبرلمان الفلسطيني عام 1996. 
ولقد كان مقرّباً من الزعيم الراحل ياسر عرفات, حيث رافقه في أغلب مباحثات السلام, وفي عام 2009 انتخب عريقات عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح، وهي أعلى هيئة قيادية في الحركة، ثم اختير بالتوافق في نهاية 2009 عضواً للجنة التنفيذية. وتم تعيينه أميناً للسر لمنظمة التحرير الفلسطينية من قِبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الرابع من تموز 2015, بالإضافة لرئاسة اللجنة الوطنية العليا لمتابعة ملف المحكمة الجنائية الدولية.
لقد أكسبته التجارب في الحقل السياسي, لاسيما التفاوضي, عقلاً سياسياً محنّكاً, استطاع من خلاله أن يُدير الطاولة التي يجلس عليها حسبما تُمليه المصلحة العامة لشعبه الفلسطيني, على الرغم من المكر والدهاء والمماطلة التي كان يُبديها الفريق التفاوضي الإسرائيلي في كل مرة يلتقي الطرفان فيها على طاولة المفاوضات منذ عام 1995 إلى عام 2014. حيث توقّفت المفاوضات نتيجة تعنّت الإسرائيليين ورفضهم وقف الاستيطان في الضفة الغربية, بالإضافة لرفضهم إتمام الاتفاق بالإفراج عن أسرى "ما قبل أوسلو", وتماديهم في الاعتداءات بحق الشعب الفلسطيني.
كما شَغَلَ عريقات منصباً هاماً جداً, حينما كان على رأس فريق المفاوضات الفلسطينية, في الوقت الذي كانت الأوراق التي يمتلكها الطرف الفلسطيني هي الأقل على طاولة التفاوض, وفي ظل امتلاك الطرف الإسرائيلي مفاتيح القوة التي تتعلق بسيطرته وإحكامه على الأرض معزّزاً بإمكاناته العسكرية الكبيرة, وعلى رغم ذلك, كان يتطلّب دائماً وجود سعة الأفق والذكاء وبُعد النظر, والتي كان يمتلكها صائب عريقات, بعد خبرة طويلة ودراسة جادّة في المفاوضات والعلاقات الدولية.
احتفل عريقات أواخر يناير/كانون الثاني 2014 بإصدار كتابه الجديد "بين علي وروجر" ويُجْرِيْ الكتاب دراسةْ مقارنة بين عناصر التفاوض السبعة التي حددها عالم المفاوضات الأميركي روجر فيشر وعناصر التفاوض الإثني عشر عند سيدنا علي بن أبي طالب، كدراسةْ مقارنة بين السلوك التفاوضي الغربي والسلوك التفاوضي العربي الإسلامي.  ولعريقات كتب أخرى منشورة ككتاب "تأصيل المفاوضات" و"الحياة مفاوضات".
وتُعدّ كتابات عريقات مرجعاً أدبياً سياسياً للتفاوض والحوار, ولقد وثّقَ مسيرتَهُ التفاوضية الطويلة في إصداراته المنشورة, وقدّم نصائحه الثمينة التي تصف المشهد التفاوضي من كل أبعاده.
يُعد المنهج الذي سلكه عريقات في محاورة إسرائيل مختلفاً تماماً عن المنهج الذي تنادي به وتعتمده أحزاب أخرى, لاسيما الأحزاب الإسلامية, والتي وضعت البندقية كأداة للحوار في وجه إسرائيل باعتبارها قوة محتلة, وعلى اعتبار أنه لا يمكن التعامل معها إلا بالقوة العسكرية, لكنّ عريقات يؤكّد على أنه يمكن استرداد الحقوق بالتفاوض والحوار, وأنه لا يوجد حل عسكري للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ولقد تعرّض عريقات لحملات تجريحٍ وتشويهٍ من قبل أنصار هذه الحركات الإسلامية, والتي لا تعترف بمشروعية التفاوض, وتتهم المفاوضين بأنهم قد قدّموا تنازلاتٍ لإسرائيل مقابل الحصول على بعض الخيارات. ولقد كانت ردة الفعل الإسلامية أمراً متوقعاً  نظراً لأن الصورة العامة عن التفاوض كانت وما زالت نمطية لديهم, ومن ناحية أخرى فإنهم يعتبرون أن إسرائيل ليست طرفاً يمكنهم الوثوق به.
يرى عريقات أن المفاوضات أمرَ حتمي, ما دامت هناك صراعات, وبذلك هو يرى بعينٍ علمية متخصصة أن التفاوض هو أنجع الاستراتيجيات لحل الصراعات والنزاعات.
يصفه البعض برجل المفاوضات والحوار المخضرم, ويصفه آخرون بأنه من قدّم التنازلات, لكن ماذا يمكننا وصف الرجل الذي رفض أن يُلقي كلمته في مؤتمر هآرتس بنيويورك, إلا إذا تم إنزال العلم الإسرائيلي من على منصّة المؤتمر؟, وكان له ذلك.
ولابد أن نكون على يقينٍ بأنَّ جولات كثيرة من المفاوضات رافقتها صعوبة بالغة في التوصل لاتفاقات مهمة, ولكنها كانت غالباً ما تبوء بالفشل, نظراً لتمسّك الفريق التفاوضي بالحقوق المعلنة, كما رفضه لتقديم أية تنازلاتٍ مع تمرير مخططات تُضر بالمصلحة الوطنية.
لقد توقّف عريقات عن أدائه كرئيس لرئاسة دائرة المفاوضات, وقدّم استقالته للرئيس محمود عباس في نوفمبر 2014, وقد عقّب حول ذلك بالقول "أنه لم يعد يُحتمَل أن نستمر أخلاقيا في ظل الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني".
وبتواضعٍ جم قال عريقات "الشعب مليء بالكفاءات ولا يوجد في هذا العالم من لا يمكن الاستغناء عنه؛ ديغول عندما أراد الاستقالة، احتجوا عليه, وقالوا له: كيف تستقيل؟, فذهب إلى نافذة مكتبه وقال للحضور: انظروا, كانت هناك مقبرة, وأضاف "هنا دُفنَ ناس كثيرون كنا نعتقد أنه لا يمكن الاستغناء عنهم, لكن لا يوجد على الأرض من لا يمكن الاستغناء عنه، والشعب الفلسطيني شعب كفاءات، وهناك من هو أفضل مني".
 
وكان لعريقات قولاً فصلاً حول الاستقالة حيث قال"أرجو قبولها، وأنا صاحب هذا الشأن، ولا أريد أن أقول أكثر من ذلك. المسألة ليست بالشخصنة، أنا لم أولد إلا جنديا فلسطينيا، وكل ما أقوم به لا يرقى إلى أظفار شهيد، وويل لأمة يصبح الفرد من قادتها يشعر بأنه أهم من قضيته، أنا جندي والحياة مستمرة والشعب الفلسطيني كله كفاءات تستطيع النهوض بهذه المسألة أكثر مني".
كما أن عريقات كان قد قدّم استقالته أيضاً من رئاسة شئون المفاوضات للرئيس الراحل عرفات في عام 2003. لكن عرفات رفض هذه الاستقالة.
ومن رئاسة المفاوضات إلى أمانة سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية, لم يكن عريقات رجلاً سياسياً محنكاً فحسب, بل كان مرجعاً وموجّهاً لكل العاملين في الحقل السياسي الفلسطيني, وفي المقابل فإنه قد حيّر المسئولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية وما زال بخطواته الدبلوماسية على الصعيد الدولي وحراكاته الحثيثة والصائبة في كل المستويات, نحو تدويل القضية الفلسطينية, وصوب الضغط على إسرائيل لتقف عند حدودها والتي ساهم في رسمها صائب عريقات في ضوء تطلعات وحقوق الفلسطينيين.