صحيح أن إسرائيل بحكومة «الهالاخاة» الجديدة دخلت في مأزق ثنائي مركب، خارجي وداخلي.
خارجياً لن تتمكن من تمرير مشاريعها التي تتحضر لها وفي الوقت نفسه تحافظ على موقع ومكانة إسرائيل الدولية التي صنعتها والتي كانت تغطيها وتشكل بوليصة تأمين احتلالها لعقود، لكنها الآن تضع إصبعها في عين العالم وتتسبب في إحراجه بمن فيهم أقرب الحلفاء، أما داخليا فقد أخذ التصدع الهوياتي يظهر حتى قبل أن تتسلم الحكومة مهامها من جملة تشريعات ورغبات بتدريس التوراة والفصل بين الجنسين وتعزيز الهوية الدينية واغتراب العلمانية المؤسِسَة التي صاغت هوية الدولة وقدرتها على التعايش مع الهوية الجديدة، الحريدية التي تكفل بها آفي ماعوز وأُعطي ما يكفي من صلاحيات فرضها.
لكن مأزق إسرائيل لا يخفي مأزق الفلسطينيين الأكثر تأثراً بعاصفة التغيير الشديدة المحملة بالغبار السياسي القادم من تل أبيب.
فما تم توقيعه من اتفاقيات ائتلافية شديد الخطورة ليس فقط على الراهن الفلسطيني بل يضع مستقبل الفلسطينيين برمتهم على مفترق طرق ويطرح سؤالاً كبيراً هو سؤال الضرورة عن قدرتهم على الصمود أمام تلك العاصفة التي تقرر إجراءات تأبيد الاحتلال في الضفة الغربية.
فقد تمكن بتسلئيل سموتريتش من الحصول على تعهد من بنيامين نتنياهو بالدفع قدماً بعملية ضم أراضٍ فلسطينية في الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها حيث جاء بالنص «لشعب إسرائيل حق طبيعي في أرض إسرائيل وعلى ضوء الإيمان بالحق المذكور سيقود رئيس الحكومة جهود صياغة سياسة بسط السيادة الإسرائيلية في يهودا والسامرة والدفع بها».
لا داعي لنشر كل ما جاء في الاتفاقيات بخصوص الاستيطان والبنى التحتية ومصادرة الأراضي وقوانين الإعدام وتسوية البؤر الاستيطانية خلال عام ونصف العام وموازنات كل ذلك، لكن يمكن القول إن هذه الحكومة وما جاء في اتفاقياتها هو إسدال صارخ ومعلن لنهاية مرحلة التجربة التاريخية بحل الدولتين والمفاوضات كوسيلة لذلك وليس هناك ما يمكنه التشكيك بتلك النتيجة.
لو كان وضع الفلسطينيين غير ذلك لما كانت الاتفاقيات بهذا الشكل الذي يفتح الشهية لاستباحة كل حاضرهم ومستقبلهم، لكن قادة الحكومة الجديدة يرون أن الوضع الفلسطيني المتهالك آيل للسقوط وفاقد للإرادة والعزيمة وأن الفلسطينيين فشلوا في تقديم أنفسهم بجدارة إقامة الدولة، فقد بنوا حكماً ماضوياً وعطلوا الانتخابات وبلا قانون واقتتلوا على فتات حكم مبتور تحت رعاية الاحتلال وانقسموا إلى غير رجعة وبات كل منهم يرى في الشقيق اللدود عدواً رئيساً ويمكن إنشاء تفاهمات مع إسرائيل أكثر سهولة من تفاهمات بينهم وتلك الصورة النمطية الواقعية تسهم في دفع إسرائيل للاستخفاف بهم وتوفر فرصة للانقضاض على مشروعهم التاريخي.
الحقيقة الراسخة أن الحالة السياسية الفلسطينية باتت تراوح مكانها منذ سنوات طويلة منذ أن كفت المشاريع الفلسطينية عن إنتاج سياسة. فالحقل السياسي الفلسطيني بات يعاني منذ سنوات من الجفاف، ففي السنوات الماضية شهدت المؤسسات ما يكفي من التهديد بوقف التعامل مع إسرائيل، قابله ما يشبه الشلل وعدم القدرة على الحركة بأي اتجاه ما زاد من عمق الأزمة التي بدأت لحظة فشل آخر مفاوضات بتجربة وزير الخارجية جون كيري في آذار 2014 لينكشف الفلسطيني الذي لم يكن قد فكر ببدائل منذ ذلك التاريخ ولا الآن رغم أنه كان لديه ما يقرب من تسع سنوات للتفكير.
وهنا تكمن أزمة غياب الفكر السياسي وتوهان العاملين بالحقل السياسي الذي غادره المشتغلون به والانصراف نحو تفاصيل أخرى هامشية لملء الفراغ الحاصل.
في المراهنة على محدودية أفق الحكومة الإسرائيلية وقدرتها على ضرب علاقات إسرائيل الخارجية أو المراهنة على فشلها وإسقاطها ما يعكس الأزمة الفلسطينية، فهي تراهن على فشل خصمها وليس على نجاحها باعتبار ذلك أمراً بعيد المنال فلم تسجل تلك الحالة نجاحات تذكر أمام هيمنة وتقدم المشروع الإسرائيلي الذي تمكن من الهبوط بالسقف الذي يحكم العلاقة من المستوى السياسي إلى مستوى إداري ومن حقوق وطنية إلى حقوق إنسانية غذائية وبمقابل ضمان الأمن، تلك المعادلة التي نجح في ترسيخها باتت تحكم العلاقة بين الجانبين دون أن ينتبه الفلسطيني لخطورتها بما بدا أن إسرائيل تمكنت من أقلمته معها وتلك سادت العلاقة بين الجانبين في الضفة وفي غزة أيضا.
عدم ذكر غزة وغيابها المطلق عن الاتفاقيات الائتلافية يجب أن يطرح سؤالاً كبيراً على الفلسطينيين الغارقين في وحل الانقسام حد انكشاف العجز ما يجعل مشروع إسرائيل يظهر بجلاء «السيطرة على الضفة وكيان فلسطيني بغزة».
صحيح أن الفلسطينيين يرفضون ذلك لكن الإسرائيلي بإمكانياته يستدرجهم ليحول هذا إلى واقع سياسي وقد تمكن، وأمام ذلك ما العمل؟
في الصراعات التاريخية عندما يكون أحد أطرافها مسلحاً بقوة غاشمة يحتاج الطرف الأضعف لاستدعاء كل الذكاء والدهاء للتغلب على فجوة القوة وربما هزيمتها، إذا ما أحسن الضعيف استخدام كل موارده. لكن المشهد الفلسطيني المتصارع لا يدعو لتفاؤل كبير في هذا السياق ...لكنها دعوة!