مع فجر اليوم الأخير، تعود فلسطين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالتصويت على قرار فتوى قانونية من محكمة العدل الدولية حول ماهية الاحتلال.
نجح القرار بأغلبية سبعة وثمانين صوتاً كافية لكي يصبح الاقتراح قراراً، تعود به محكمة العدل، إلى الجمعية العامة بعد أن تقدم رأيها القانوني بشأن شرعية الاحتلال.
لا شكّ بأن الجمعية العامة، كما قضاة المحكمة الذين يصل عددهم إلى المئة، يتعرضون لضغوطٍ كثيفة من قبل إسرائيل وحلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لكن كل ذلك لن ينجح على الأرجح، في منع صدور فتوى لصالح الحق الفلسطيني، طالما أن الفتوى تستند إلى قرارات الشرعية الدولية.
ست وعشرون دولة صوّتت ضد القرار، من بين أهمها الولايات المتحدة وبريطانيا بالإضافة إلى دول غربية أخرى وازنة، الأمر الذي يكشف زيف سياسات هذه الدول، التي لا تكفّ عن التأكيد على أنها تلتزم "رؤية الدولتين" كحلّ للصراع.
يكشف هذا زيف هذه السياسات، مضامين وأبعاد خطاب السلام و"رؤية الدولتين"، الذي يتأسس بعيداً عن قرارات الأمم المتحدة، ومنطق القانون الدولي.
هذا الحلّ بالنسبة لهذه الدول، هو الحلّ الأفضل لإسرائيل، كما يصرح المسؤولون الأميركيون وغيرهم.
يبدو هذا الخطاب مجرّد نصيحة لإسرائيل، ليس أكثر، فإن استمعت إلى النصيحة فإن الطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو المفاوضات.
واضح أن هذه الدول ترفض إعمال القانون الدولي، وترفض ممارسة أي ضغوط لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، و"حل الدولتين" طالما أن إسرائيل ترفض ذلك على نحوٍ حازم وقاطع.
وطالما أن الأمر كذلك، فإن أي مفاوضات لو حصلت، ولن تحصل، فإن مخرجاتها، ستكون وفق الشروط والمقاسات الإسرائيلية، التي لا تقبل بوجود دولة حتى لو كانت مقطّعة الأوصال ويصفها الإسرائيليون بأنها ستكون "دولة إرهاب".
في الميدان، فإن الأحكام قد صدرت بالفعل، وصدرت منذ وقت ليس قصيراً، فإسرائيل لا ترى حقوقاً سياسية للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، والكلّ في إسرائيل مُجمع على ذلك، أما مع حكومة "اليمين العنصري الإرهابي الفاشي"، فإن الحكم الإسرائيلي يرفض حتى وجود الفلسطيني على أرضه وليس فقط حقوقه السياسية والمدنية.
إزاء التصويت لا بدّ أن يتوقف الفلسطينيون أمام ظاهرة تكرّرت خلال التصويت مرّتين على طلب الفتوى من "الجنائية الدولية"، ومن "العدل الدولية"، حيث امتنع أكثر من خمسين دولة عن التصويت.
ثمة دول إفريقية، وآسيوية، وأميركية لاتينية، وقفت في موقع الامتناع عن التصويت، ما يعكس أمرين: الأول، ضعف وربما إهمال فلسطيني وعربي للتحرك نحو هذه الدول، ما ترك فراغاً تملؤه إسرائيل. أما الثاني، فهو انعكاس لآليات عمل النظام الدولي السائد حتى الآن والذي تتسيّد عليه الولايات المتحدة، والتي لا تتوانى عن استخدام نفوذها لتخويف هذه الدول، والضغط عليها لكي تبيع كرامتها، وقيمها والتزاماتها إزاء منظومة القوانين الدولية.
يصوّت معظم هذه الدول لصالح قرارات، تتعلق بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، حيث حاز آخر تصويت بالخصوص على مئة وثمانية وستين صوتاً، وكذلك الحال حين يتعلّق الأمر بحق الفلسطينيين في استثمار مواردهم الطبيعية.
تناقض واضح، وصارخ، في مواقف الكثير من دول العالم، بين إقرار الحقوق، ذات الأبعاد القيمية النظرية، وبين الامتناع عن ذلك حين يتعلق الأمر بقرارات ذات أبعاد قانونية سياسية إجرائية، كما بالنسبة لقرار طلب فتاوى منصّات العدالة الدولية.
في كل الحالات، ما كان لأحد أن ينتظر انصياع إسرائيل أو احترامها للقرار الذي وصفه نتنياهو بـ"الحقير"، ويعلن عدم الالتزام به ويتوعّد باتخاذ عقوبات، ضد قيادات السلطة الوطنية، وربما يكون ذلك في حال وقع مجرّد مقدمات لعقوبات أخرى بحق الفلسطينيين.
حين ننقل ردّ الفعل الإسرائيلي من البعد الأخلاقي، إلى الأبعاد السياسية والحقوقية، فإن السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة عبّر بكل وضوح وصفاقة، عن موقف إسرائيل المستهتر بالأمم المتحدة والرافض للقانون الدولي، وفي الوقت ذاته الذي يعبّر عن طبيعة السياسات والمخطّطات الإسرائيلية.
قال السفير الإسرائيلي رداً على القرار: "لا يمكن لأيّ محكمة أو هيئة دولية أن تقرّر أن إسرائيل تحتل أرضها، أو أن وجودنا في القدس والضفة الغربية غير قانوني. الإجراء الذي يحصل على تفويض من هيئة "مشوّهة أخلاقياً" مثل الأمم المتحدة ليس له شرعية".
إذاً بالنسبة لإسرائيل، فهي ليست دولة احتلال، وأن الضفة الغربية والقدس أراضٍ إسرائيلية تحاول استعادتها، وأن وجودها وسيطرتها في هذه الأراضي، يستند إلى شرعية ادعاء الحق.
الجانب الآخر ينطوي على موقف رافض، ولا يحترم مؤسسات الأمم المتحدة، باعتبارها هيئة "مشوّهة أخلاقياً"، كما يقول السفير.
الأمم المتحدة المحترمة والشرعية بالنسبة لإسرائيل هي فقط الست وعشرون دولة، التي عارضت القرار، وإليها ستتوجه إسرائيل بطلب وجهة نظر قانونية، كرسالة مما تعتبره إسرائيل "العالم المتنوّر".
العالم ظلامي بالنسبة لإسرائيل، ينطوي على رسالة للدول التي امتنعت عن التصويت، بما أنها تنتمي إلى "العالم غير المتنوّر"، والتي عليها أن تقرّر أين يقف إزاء هذه الإهانة المباشرة لكراماتها وقيمها.
ستقدم "المحكمة الجنائية" و"العدل الدولية" إفادتهما، ولن تنصاع إسرائيل، ولكن هذا يجب ألا يجعل أي فلسطيني عاقل يقلّل من أهميّة هذا التوجّه وهذه الإنجازات.