من شاهد عشرات الآلاف، وربّما مئات الآلاف إذا أضفنا إلى احتفالات الحركة في قطاع غزة يوم السبت في 31/12/2022 الاحتفالات التي سبقتها في مدن الضفة الغربية وفي الشتات، لا بدّ أنه سيقف حائراً أمام هذا الزخم الجماهيري لهذه الحركة في الوقت الذي تعاني فيه كل ما تعانيه من مظاهر الترهُّل، ومن مظاهر الهشاشة التنظيمية والانضباطية، وبما يصل إلى نقص شديد، وأحياناً انعدام وحدة الإرادة والعمل.
ثم لماذا كل هذا النزيف في جسد الحركة، ولماذا كل هذه الصراعات، والتصدُّعات و"التنافس" المرضي بين بعض القيادات فيها، والتي باتت تهدّد ليس مجرّد وحدة الحركة، وإنما تهدد كامل دورها ومصير هذا الدور؟
وكيف يمكن تفسير هذا المشهد المتناقض بين تأييد جماهيري كاسح وكبير من جهة، وبين تراجعات حادّة على مستوى بنيتها ودورها في إعادة استنهاض الحالة الوطنية، هذا الاستنهاض الذي تحوّل في الواقع إلى ضرورة وطنية مُلحّة ذات أولوية مُطلقة.
كثيرة هي الأسباب، وعديدة هي التفسيرات لهذه الحالة من التناقض بين الصورتين، وهي مُشخّصة ومعروفة سياقاتها والأسباب التي أدّت إليها. وما وصلت إليه الحركة من أوضاع لا تُحسد عليها من المظاهر التي أتينا على بعضها، والتي فرضت الكثير من الخلل في أدائها.
الحقيقة أن "فتح" ما زالت قويّة فيما هو كامن فيها وليس فيما هو كائن فيها، وهي بالتالي ليست قوية لاستنهاض عناصر القوّة الكامنة فيها، والاحتياطات الهائلة التي تختزنها، والطاقة الكبيرة التي ما زالت تنطوي عليها.
إذا أمعنّا النظر في هذه "المعادلة" بالذات، سنجد أن الحركة قد ارتكبت الخطيئة الكبرى في تاريخها كلّه عندما ربطت مصيرها بمصير السلطة كمشروعٍ تمّت إقامته في ظروف وموازين ومعطيات ليست مواتية تاريخياً لإنتاج أو إنجاب مُنجزٍ تاريخي جوهري للمشروع الوطني.
اعتقدت "فتح" أن مشروع السلطة هو المرحلة الانتقالية الأولى للانتقال إلى مرحلة الدولة، وبالتالي عمدت الحركة إلى زجّ كلّ طاقتها في هذا المشروع على اعتبار أن تسيّدها على مشروع السلطة سيمكّنها من التسيّد على مشروع قيام الدولة، بدليل أنها اعتبرت التفاوض في حينه مهمّة كفاحية إلى جانب مهمّة البناء، وعلى اعتبار أن المرحلة هي مرحلة "الاستقلال" الوطني، وليس التحرُّر الوطني.
هنا تخلّت "فتح" عن مهام استكمال التحرُّر الوطني، وكيّفت بنيتها مع هذا الفهم واختزلت كل الأشكال الكفاحية الخاصة بخصائص التحرُّر الوطني، وغيّرت من أشكال علاقتها مع الجماهير، واستبدلت الكثير من أنماط تحالفاتها على كل المستويات.
لم تدرك "فتح" في حينه أن مغريات السلطة ستتحوّل إلى قيودٍ وارتهانات، لا من حيث قيود وارتهانات أيّ سلطة فقط، وإنما من حيث إن هذه السلطة بالذات وُلدت مُقيَّدة، وكان شرط دورها وبقائها هو "البقاء" تحت رحمة الاحتلال، ورحمة "الغرب" و"الإقليم" الذي وافق على قيامها، أو شجّع على ذلك.
لم تدرك "فتح" أن إسرائيل كانت تهدف بالضبط للوصول إلى هذه النتيجة، وأن آليات الوصول إلى هذه النتيجة كانت المحرّك الرئيس لسياستها التفاوضية، وأن هذا الهدف بالذات هو معيار نجاح "الوقيعة" أو "الملعوب" الذي لجأت إليه لنسف سعي الشعب الفلسطيني لتحويل مشروع السلطة إلى دولة، وهو في الواقع الهدف الذي دشّنه "اليسار" في إسرائيل قبل "اليمين"، وقبل "اليمين المتطرف"، وقبل "اليمين الفاشي".
وحتى لو أن "الأجواء" التي أحاطت بتلك الخطيئة لم تكن توحي في حينه بأن ثمة خطيئة قد ارتكبت، وأن قيام السلطة هو فرصة بحدّ ذاتها، قد تُفضي إلى الدولة، والاعتقاد بأن الفرصة ممكنة إذا ما أحسنَ الفلسطيني الأداء، وأبدى الكثير من "الالتزام" فقد انتهت مثل هذه الأوهام مع رفض إسرائيل استكمال "الانسحابات"، وأوقفت كل تقدّم على هذا الصعيد، وحوّلت العملية التفاوضية إلى تفاوض من أجل التفاوض، وحوّلت مسألة التفاهمات والاتفاقيات والتسوية بحدّ ذاتها إلى عملية تفاوضية دائمة، مفتوحة، ومن دون مواعيد "مقدّسة" كما أعلنت إسرائيل نفسها في حينه.
وهكذا تم "تحويل" مشروع السلطة منذ ذلك الوقت ــ على الأقلّ ــ إلى "حكم ذاتي" مُقيَّد ومُحاصر، وتحويل مهماته الاجتماعية والخدمية والاقتصادية إلى الدور الوحيد، وبشروط الدور الأمني المطلوب.
كما يمكن استنتاج كل ذلك من لحظات التفاوض قبل توقيع الاتفاقيات، إلّا أن عدم استنتاج ذلك بعد التوقيع، وبعد مرحلة "غزة ــ أريحا"، وبعد أن رفضت إسرائيل التقدم بخطوة واحدة إلى الأمام بعد أن تم ترسيم وتقسيم الأرض الفلسطينية بين (أ) و(ب) و(ج)، وهو تصور سياسي خطير.
لم تتراجع "فتح"، ولم تراجع، ولم تتمكن من الخروج من الدائرة المفرغة التي تدور السلطة بداخلها، وتحوّلت "فتح" في الواقع إلى "حصان" السلطة في هذا الدوران.
وليت أن الأمور قد توقفت عند هذا الحدّ، لقد تحوّل مشروع "الكيان" الجديد إلى الكيان الرئيس، وتحوّل الكيان الأساسي والأُمّ والذي يتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية إلى كيانٍ فرعي ومُلحق، في وقتٍ كانت قد انتهت معه المرحلة الانتقالية، وماتت وشبعت موتاً، وأصبحنا ننتقل من تفاوض إلى تفاوض جديد، ومن تراجع إلى آخر، ومن تآكل إلى تآكل أكبر، ومن مراهنة إلى مراهنات خاسرة في كل محطة من محطّات هذا التفاوض.
تحوّلت السلطة إلى هدفٍ بحدّ ذاته، وكان واضحاً أن الانتقال من المنظمة إلى السلطة هو بمثابة الوصفة الجاهزة والمؤكدة للتراجع الاستراتيجي الكبير في الحالة الوطنية.
المحيّر هنا هو أن "فتح"، أو بعض قطاعاتها استشعرت بعض هذه الأخطار، وبادرت إلى "هبّة النفق"، وانخرطت في الانتفاضة الثانية، لكنها لم تُتبِع مقاومتها لتلك الأخطار التي استشعرتها بأي مراجعة لأصل وجوهر الأزمة، وعادت للتمسك بالسلطة ــ وهذا لم يكن الخطأ بحدّ ذاته ــ وإنما عادت للتمسك بالدور الذي بات واضحاً لهذه السلطة في المعطيات التي كرّست هذا الدور، وتحوّل التفاوض إلى الشكل الرسمي المعتمد في محاولات الدفاع عن دور السلطة الذي لم يكن مرشحاً سوى للمزيد من الضعف، والمزيد من الصلاحيات المقلّصة أو المنزوعة.
والحقيقة أن "فتح" لم تحصد أي نتائج لمقاومتها لأنها كانت قد دفعت ثمن عدم تراجعها ومراجعتها.
حركة قادت الشعب على مدى نصف قرن، ونقلته من اللجوء والإلحاق والوصاية إلى مرحلة التحرر والهوية والكيانية الوطنية لم يكن إلّا أن تكون قوية وجماهيرية.
حركة مشت بالشعب الفلسطيني في مسار المستحيل كما كان يبدو آنذاك، ومشت به بين "قطرات المطر"، وحركة شقّت الطريق، وأطلقت الرصاصة الأولى في وجه عدوٍ قادر، وقوي، ومُدجّج بكل أسلحة الدمار والعلم والمعرفة، ومُحاط بشبكة جهنمية من العلاقات العضوية والمصيرية بكامل منظومات "الغرب" كله.. حركة على هذا القدر من الإقدام ما كان إلّا أن تكون جبّارة وتاريخية.
للأسف لم تلتقط "فتح" اللحظة التي كان يجب أن تراجع بها وتتراجع عن نهجها الذي أوصلها إلى ما وصلت إليه الآن.
هذه الحركة ما زالت قوية من زاوية دورها التاريخي، ولكنها الآن ضعيفة من زاوية دورها السياسي.
السلطة نفسها تغيّرت إلى الأسوأ. فمن محاولة البناء تحوّلت إلى دائرة المغانم والامتيازات. والسلطة لم تعد حركة فتح التي نعرفها وإنما دخلت إليها واندمجت بها، وانخرطت في هياكلها وفي سياساتها شرائح جديدة من البرجوازية الاحتكارية، وجرى داخل هذه السلطة تحالف جديد بين بيروقراطية السلطة العليا، وتلك الشرائح من البرجوازية الاحتكارية حتى أصبحنا اليوم أمام واقعٍ لا ينتمي لـ"فتح"، و"فتح" في حقيقة الأمر، الحركة الواسعة القوية التاريخية لم تعد تنتمي لها إلّا من حيث انعدام البديل الوطني أمام عشرات الآلاف من أبناء الحركة.
أين هو البديل عن السلطة، البديل الحقيقي القادر على أن يكون قائداً ورائداً ويشقّ طريق الإنقاذ الحقيقي؟
بالنسبة لجماهير "فتح" لا يوجد مثل هذا البديل، وهذه الجماهير تراهن على أن الحركة نفسها ستعود للنهوض وستكون قادرة على الاستنهاض.
لا أحد يملك حق مصادرة هذا الأمل، ولا تملك الطبقة السياسية في "فتح" والسلطة تفويضاً دائماً باستمرار هذا الوضع.