نشر مالكولم كير في العام 1971 كتاباً بعنوان "الحرب الباردة العربية: جمال عبد الناصر ومنافسوه 1958 - 1970".
وبهذا الكتاب يمكن التأريخ لولادة تعبير "الحرب الباردة العربية"، المُتداول على نطاق واسع في الأكاديميا الغربية.
لقي كير، الذي أصبح رئيساً للجامعة الأميركية في بيروت، مصرعه في العاصمة اللبنانية في العام 1984. ويكاد التعبير نفسه يكون مجهولاً في العالم العربي، لا لأن طرفي الصراع ينكران وجوده وحسب، ولكن لأن الاعتراف بوجوده يحبط محاولة طرفيه طمس معالم مرحلة تاريخية حاسمة، وذاكرة يراد لها أن تكون مغيّبة، أيضاً.
وينبغي، على أي حال، التذكير بحقائق من نوع أن خروج التعبير من التداول لا يعني أن الحرب توقفت عند العام 1970، فالتاريخ المذكور في العنوان الفرعي للكتاب يشير إلى وفاة عبد الناصر، التي أرّخت لنهاية مرحلة لا لنهاية الحرب نفسها، فالحرب لم تتوقف حتى يوم الناس هذا، كل ما في الأمر أن أدوار اللاعبين تبدّلت، وأن مفردات جديدة طردت مفردات قديمة وأخرجتها من التداول.
ولكي لا تأخذنا الظنون، فلنقل إن معنى تلك الحرب، في أكثر دلالاتها مباشرة، هو الصراع على النفوذ في العالم العربي. تكلّمنا عن تغيّر أدوار اللاعبين، وعن دخول مفردات وطرد غيرها. وهذا ما يعنينا الآن، فلا معنى، في الواقع، "لدخول مفردات وطرد غيرها" ما لم نرصد محاولة لطمس الماضي خدمة للحاضر، طالما أن رواية المنتصر لا تتحقق دون طمس رواية المهزوم، ولا يندر العثور، في كل مكان من العالم، على مهزومين كثيرين تماهوا مع، وتبنوا، رواية المنتصرين.
لذا، عقّبتُ، قبل أسبوعين في معالجة بعنوان "تمارين ومشاغل ليست لغوية" على تحليل لباحثة أميركية، تُدعى فلورانس غاوب، تعمل لدى مركز الدراسات الاستراتيجية في كلية الحرب، التابعة للجيش الأميركي، بالقول إنها لا تفهم ما الذي تتكلم عنه.
ومبرر التذكير بها، اليوم، أنها نحتت، بدورها، في 2015، تعبير "لحظة الخليج"، الذي صار متداولاً في لغة بعض الإبراهيميين في السنوات الأخيرة. ففي تحليلها لمرحلة الحرب الباردة العربية ـ العربية، غابت عنها حقائق من نوع إمكانية العثور فيما يحدث في هذه المنطقة أو تلك من العالم على أصداء ما يحدث في كل مكان آخر من العالم، أيضاً. ولا معنى، أو قيمة للتحليل، دون سماع تلك الأصداء.
فالمرحلة التي بدأت في أواسط الخمسينيات، وانتهت بوفاة عبد الناصر في العام 1970، (حسب تحقيب كير) تمثّل فترة احتدمت فيها الحرب الباردة بين معسكرين متصارعين على صعيد العالم، وقد شهدت صعود حركة التحرر القومي في المستعمرات، وحروب التحرير، ونزع الاستعمار فيما عرف في حينها بالعالم الثالث.
وفي سياق كهذا، فإن أفكاراً من نوع الجمهورية، والعدالة الاجتماعية، والتقدّم والرجعية، التي كانت بمثابة العناوين الرئيسة للحرب الباردة العربية، وفي صميمها، لم تكن حكراً على العالم العربي، بل كانت في صميم الصراع الأيديولوجي على صعيد العالم.
وإذا تضافر هذا كله مع قضايا الاستقلال، وبناء الدولة الحديثة، وتداعيات وإكراهات الصراع العربي ـ الإسرائيلي في الحواضر، فلا معنى لتحليل تلك الحرب بمفردات التطرّف والاعتدال. وما من معنى لطرد مفردات كالتقدم والرجعية، ودخول مفردات من فصيلة التطرّف والاعتدال سوى محاولة لطمس رواية الماضي برواية مُفتعلة في الحاضر، وعنه. ومع ذلك، لا ينبغي القول إن مفردات التطرّف والاعتدال تسود وحدها خطاب ولغة الإبراهيميين. فثمة مفردات غيرها تصارع على احتلال مكان ومكانة يُعترف بها في المتن. أما الخلاف بينها وبين مفردات التطرّف والاعتدال فهو خلاف، في الجوهر، بين متنافسين على موقع الأولوية، والوجاهة، في معسكر الإبراهيميين أنفسهم.
ولكي نتمكن من تفادي سوء الفهم، فلنقل: هؤلاء وأولئك وجهان لعملة الثورة المضادة الواحدة، وهذا ما يجد مبرراته في التحذير من مخاطر "قومية الجزيرة"، كما تجلت في أيام المونديال، التي حضرت فيها علامات التضامن مع الفلسطينيين، وغابت عنها مشاهد الطائرات الإسرائيلية، التي تنقل الإسرائيليين لحضور المباريات.
وإذا شئنا تلخيص القومية المذكورة، فلنقل إنها أكثر انسجاماً مع صعود الشعبوية في العالم، ومع "مزاج الجماهير" (في الحواضر العربية، على نحو خاص) فهي لا تنفي لغة الماضي، بل تجرّدها من دلالتها الأصلية، وتعمل على رفعها إلى مقام التعبير اللغوي المستقل عن الواقع. وهذا لا يتأتى دون تبني الشيء ونقيضه: يمكن أن تقيم علاقة مع إسرائيل، وحماس، في وقت واحد، وأن تمثل نظاماً لا يعترف بحرية التعبير، وأن تتغنى بالديمقراطية، أيضاً. وعلى ذلك يمكن القياس في كل شيء آخر.
لا أريد الاستفاضة في هذا الجانب. ولكن مع كتابة هذه الكلمات يتردد في الذهن تحذير المفكر الأسباني أورتيغا غاسيت، من علامات مُقلقة ومُفزعة تتمثل في تبني الشيء ونقيضه، فشعار كل شيء ممكن وكل شيء مباح يعني أننا صرنا على حافة الهاوية، كما كانت أوروبا نفسها على حافة الهاوية عشيّة الحرب العالمية الأولى والثانية، وكما تبدو في ظل صعود الشعبوية، وتجلياتها الترامبية، والليكودية، والإبراهيمية في الشرق الأوسط، وفي كل مكان آخر. فاصل ونواصل.