في الآونة الأخيرة شهد السوق الغزي حالة من الإغراق السلعي تبعها تنافس سعري عبر العروض والتخفيضات للسلع والمنتجات المستوردة من الصين وتركيا وحتى جمهورية مصر العربية والهند وغيرها، حيث يتم أحياناً بيع هذه السلع بنصف ثمنها، وقد انتشرت العروض في ظل استخدام مختلف المحلات التجارية وخاصة محلات الملابس والأدوات المنزلية التسويق الإكتروني كوسيلة لجذب الزبائن وللترويج لبضائعها وسلعها، وقد دفعني هذا الأمر إلى طرح سؤال عبر صفحتي على الفيس بوك نصه "لماذا في رأيكم كثرت العروض والتخفيضات على الكثير من السلع في قطاع غزة؟" وتم ذكر عدة أسباب أهمها، الركود الاقتصادي، زيادة في كميات السلع المدخلة أو المنتجة في قطاع غزة، مشكلة التكييش "تعني الشراء بشيكات أو بكمبيالات والبيع بسعر أقل للحصول على الكاش"، تحويل الأموال من الخارج، وسأقوم في هذا بتناول الموضوع من كل جوانيه.
بداية من الطبيعي أن يكون هناك انتشاراً واسعاً للترويج السلعي يتم من خلال الفضاء الالكتروني عبر إعلانات ممولة بهدف الوصول لكافة الشرائح ويتميز المجتمع الفلسطيني نسبة الاستخدام العالية للوسائل التكنولوجيا والهواتف الذكية فمعدل امتلاك الهواتف الذكية يصل إلى 68% من أفراد مجتمع قطاع غزة (10 سنوات فأعلى)، إضافة إلى إتاحة الولوج للإنترنت في كل الشوارع والأحياء (انترنت بشيكل واحد ل24 ساعة).
تحولت معظم عمليات الترويج للسلع وخاصة في مجال الملابس والأدوات المنزلية إلى ساحة معركة للمنافسة بين أصحاب المصالح التجارية من خلال العروض والتخفيضات على الأسعار والتي يكون أحياناً فيها نوع من الخداع والتضليل، أي ما تشاهده في الإعلان يكون مختلف عن الموجود في المحل من حيث الجودة أحياناً أو الحجم، ولا تكون معظم الإعلان عن العروض والخدمات حقيقة، كما تقوم بعض محلات الملابس والأحذية ببيع السلع المستوردة بأسعار أقل من تكلفة إنتاجها في بلدها الأصلي.
إذا أردنا التفكير بطريقة منطقية عن سبب كثرة العروض والتخفيضات على السلع سنجد أن هذا الأمر يرتبط بمزيج من الأسباب تتفاوت فيما بينها ولكن ربما يتفق معظم من سألناهم هذا السؤال على أن الموضوع يرتبط بالقيود المفروضة على تحويل الأموال إلى قطاع غزة فهل هذا الأمر صحيح؟ دعونا نأخذ كل سبب على حدة حتى نستطيع فهم ما يحدث.
الوضع الاقتصادي السيئ في قطاع غزة قد تسبب بضعف القوة الشرائية للمواطنين وأصاب الاقتصاد بحالة من الركود في كل القطاعات مما دفع بعض التجار إلى القيام بالعروض والتخفيضات على سلعهم، ولكن هذا الأمر سيحدث في المواسم مرة في السنة أو مرتين، كي يستطيع التاجر الحصول على أمواله من السوق لاستمرار تجارته أو حتى لتصفيتها اذا كان يرغب بإغلاق مصلحته التجارية.
وهنا نذهب إلى السبب الثاني والمتعلق بمشكلة التكييش والتي تنتشر في قطاع غزة بين بعض المواطنين والتجار بهدف الحصول على النقد بحيث يقوم المواطن/التاجر بشراء سلعة بالتقسيط بسعر أعلى من ثمنها، ثم يقوم بإعادة بيعها نقداً سواء للبائع الأول أو لشخص آخر بسعر أقل من سعرها الأصلي بكثير، وهذا موجود في قطاع غزة في العديد من السلع وخاصة الأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية حيث تجد أن سعر هذه السلع عند البائع الأصلي أو المنتج أعلى من سعرها في محلات تجارية أخرى، وبالتالي فهذا السبب منطقي أيضاً في ظل عدم القدرة في السيطرة على هذه المشكلة.
أما السبب الثالث فيتعلق بزيادة المعروض من السلع، وهذا نلاحظه في المنتجات الزراعية وسوق الدواجن حيث يوجد فائض من المعروض في بعض المواسم من السنة وهذا الأمر عادي في ظل ظاهرة التغير المناخي، وضعف القدرة على ضبط هذا السوق أحياناً.
أما السبب الرابع فيتعلق بالقيود المفروضة من قبل الاحتلال والقيود البنكية على تحويل الأموال إلى قطاع غزة فيلجأ البعض إلى إدخال بضائع لتحويلها إلى نقد.
ما ذكرته سابقاً يتفق مع ما جاء في حديثي مع الأكاديمي المتخصص في الاقتصاد د. محمد بربخ والذي أضاف سبباً خامساً يرتبط بعمليات النصب والاحتيال التي تقوم بها بعض مكاتب شحن من الصين وتركيا والاحتيال على التجار وأصحاب المصانع هناك والتهرب من دفع الالتزام المالية، حيث أن هناك عشرات القضايا الموجودة لدى جهات الاختصاص، كما أن هناك بعض التجار من الصين جاءوا لغزة للمطالبة بحقوقهم المالية.
تبذل وزارة الاقتصاد الوطني جهداً كبيراً في متابعة الأسواق من أجل ضبط الأسعار، والحفاظ على حالة التوازن، وقد ظهر هذا الأمر في مجال محاربة التكييش من خلال إصدار الوزارة لقرار رقم 64/2022 والذي يحظر التكييش والمعنون ب "حظر قيام البائع بالتقسيط إعادة شراء المبيع بأقل من السعر المباعة فيه أو الإعلان أو الترويج للسلع والمنتجات والخدمات بهذه الوسيلة، وإصدار قرار رقم 73/2022 والخاص بنظام البيع بالتقسيط، وما قامت به الوزارة في مجال فرض رسوم على بعض السلع ومنها الألبسة من أجل حماية المنتج المحلي والذي يأتي في إطار محاربة عمليات النصب والاحتيال.
خلاصة القول أننا في قطاع غزة بحاجة إلى فهم عميق لاقتصاد غزة التي تقع تحت الاحتلال وتعاني من ويلات الانقسام، والعمل على اتخاذ الإجراءات وإصدار الأنظمة اللازمة لضبط الأسعار في السوق وحل المشكلات الاقتصادية، وإعداد خطة انقاذ اقتصادية بمشاركة كل الأطراف ذات العلاقة.