يحتل مستقبل النظام السياسي الفلسطيني بعد رحيل الرئيس عباس مساحة واسعة من الجدل والنقاش في الأوساط السياسية والأمنية والأكاديمية الإسرائيلية لغايات تطوير أفضل التدخلات التي تؤمن المصلحة الإسرائيلية.
وعلى الرغم من تعدد وجهات النظر هذه، إلا أن هناك إجماع تقريباً بين وجهات النظر المتعددة هذه على ثلاث مسائل، تدور الأولى حول أن إنهيار السلطة الفلسطينية ونهاية الحركة الوطنية وإنتشار الفوضى هو السيناريو الأكثر إحتمالاً، وتتعلق الثانية بضرورة عدم العودة لإحتلال الضفة الغربية الذي يعني الإنزياح للدولة الواحدة، أما الثالثة فتتعلق بمنع حماس من السيطرة على المشهد في الضفة الغربية.
وتنقسم وجهات النظر حول المسألة الأولى الى قسمين، يظهر الأول قلقه من تداعيات إنهيار السلطة على الأمن القومي الإسرائيلي ويدعو للتدخل لهندسة الحركة الوطنية الفلسطينية الجديدة، ويتمثل هذا القسم في معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي كما تجلى في المذكرة رقم (225) التي نشرها المعهد في شهر كانون الاول العام المنصرم وحملت عنوان "اليوم التالي لرحيل الرئيس عباس: العواقب الإستراتيجية على إسرائيل"، لا سيما في الخاتمة التي كانت تحت عنوان (إسرائيل وتشكيل حركة فلسطينية مستقرة) للباحثان أودي ديكل جنرال متقاعد ويعمل كرئيس لبرنامج الأبحاث الفلسطينية، ونوا شسترمان وهي باحثة في المعهد وتعمل كمنسقة لبرنامج البحث الفلسطيني.
بالمقابل يرى أصحاب القسم الثاني والذين يبرز منهم رئيس معهد القدس للإستراتيجية والأمن (افرايم عنبر) في مقالة له حملت عنوان "الفوضى في المناطق- إذا كان لا مفر فلتكن" نشرها الموقع الإلكتروني للقناة التلفزيونية ((N12 الأسبوع الماضي والتي يقول فيها عنبر "انه على الرغم من أن الفوضى ليست السيناريو المفضل إسرائيلياً، إلا أنه ينطوي على إيجابيات إستراتيجية لإسرائيل، لا سيما أنه سيؤدي الى انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية التي تعتبر مصدر العنف ضد إسرائيل حتى الآن، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف الى انتاج حركة وطنية سقفها السياسي أقل بكثير من الحركة الوطنية التي قادها ياسر عرفات وسلفه محمود عباس".
من جهتها تجادل هذه المقالة أن الإنقسام الموضح أعلاه هو انقسام ظاهري، أما في الباطن فتظهر القراءة المتأنية لوجهتي النظر أن هناك إجماع بين الباحثين في معهدي القدس وإسرائيل مفاده أن المصلحة الإستراتيجية العليا تكمن في انتاج قيادة للحركة الوطنية الفلسطينية الجديدة غير معادية، إذ فيما يوصي أصحاب القسم الأول بضروة شروع إسرائيل بهندسة وتصميم هذه القيادة، يرى أصحاب القسم الثاني أن الواقع الصعب الذي سيواجهه الفلسطينيون بعد رحيل الرئيس عباس سينتج بالضروة قيادة سقفها السياسي أقل من القيادة الحالية، لا سيما وأن حالة الفوضى التي آلت اليها الإنتفاضة الأولى في نهاياتها دفعت بالفلسطينيين إلى قبول مسيرة أوسلو.
تبين حالة الإختلاف الظاهر والإجماع الظاهر الموضحة في الفقرة السابقة مدى الإنكشاف الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يشجع خبراء الأمن القومي الإسرائيلي إلى الإطمئنان الى حقيقة أن الشعب الفلسطيني لن يكون بمقدوره بعث حركة وطنية لا سيما قيادة وطنية تشبه الشعب الفلسطيني ويمكنها تحقيق أهدافه وأمانيه في الحرية والإستقلال.
وفي هذا الشأن أجادل في هذه المقالة أن القراءات الإسرائيلية المختلفة لمستقبل النظام الفلسطيني بعد الرئيس عباس هي قراءات ميكانيكية قاصرة تهدف الى حرف مسار الحراك الفلسطيني المتفاعل منذ وقت ليس بقصير لغايات بعث الحركة الوطنية الفلسطينية من جديد، والأهم من ذلك أنها تؤكد أن إسرائيل بيمينها ويسارها ليس بواردها الإعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية وتواصل خداع الذات، الأمر الذي يستدعي أخذه بعين الإعتبار من قبل الكل الفلسطيني وهم يعيدون بعث حركتهم الوطنية الجديدة.