"غزّة" من أكثر الأماكن في العالم التي تُعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية خانقة، حيث أدى ارتفاع عدد السكان وقلة فرص العمل والحصار الإسرائيلي المستمر منذ 16 عاماً إلى تفاقم تلك المشكلات، وأثر بشكلٍ كبير على المواطنين بحيث إذا فكر أحدهم بإنشاء مشروعه الخاص ولم يُكتب له النجاح سيكون مصيره السجن، والملاحقة من التجار والشرطة على قضايا ذمم مالية.
وامتلأت السجون الغزّية بالحالات الإنسانية الصعبة من شيبٍ وشباب، وبعضهم تجار وعمال والبعض الآخر ممن أراد الحياة وإكمال نصف دينه ولجأ للاستدانة من بعض مؤسسات تيسير الزواج، فلم يستطع إيفاء القسط الشهري المفروض عليه، فيصبح ملاحقاً وينتهي مصيره بين قضبان السجن.
آلاف الشكاوى اليومية المتعلقة بقضايا الذمم المالية وتعذر سدادها إما من قبل المواطنين أو التجار، فتلاحق الشرطة المتعثرين من سداد ديونهم في ظل تقديم أصحاب الأموال من مؤسسات وشركات وأفراد شكاوى ضدهم للمطالبة باسترداد حقوقهم المالية، ما رفع من أعداد الموقوفين في السجون.
وخلال السنوات الأخيرة نظمت العديد من الجهات والمؤسسات الخيرية والفصائلية حملات موسمية كان يُطلق عليها اسم "فكاك الغارمين" عبر تسديد الأموال عن المتعثرين والموقوفين في السجون لدى الشرطة مقابل الإفراج عنهم وإعادتهم لعائلاتهم.
الشاب تيسير عودة "32 عاماً" من سكان شمال غزّة، تحدث لمراسلة وكالة "خبر"، عن تجربته مع الملاحقة من قبل الشرطة ومؤسسة تيسير الزواج التي تقدم للاقتراض منها بغرض الزواج وبناء أسرة، فقال: "وصلت إلى سن 31 عاماً ولم أتزوج وليس لدي عمل ثابت، فكل الأشغال التي تتوفر تكون مؤقتة، فتارةً أعمل نادل في أحد المطاعم وأخرى عامل تنظيف في المطعم، وتارةً أبيع الشاي والقهوة على إحدى البسطات، وبالكاد أستطيع توفير لقمة عيش اليوم، ولم يكن بمقدوري جمع المال الذي سيساعدني على التقدم لبنت الحلال وإكمال نصف ديني."
وتابع: "بعد إلحاح والدي لأتزوج ويروا أبنائي، تقدمت لمؤسسات تيسير الزواج لتساعدني في توفير ما يلزم، وذهبت واشتركت بالحملة المتاحة، وساعدوني بتوفير المصاريف اللازمة للزواج بجزء من المهر، وترتيبات الفرح من صالة وحفلة وغداء وبدلة فرح وغيرها من الترتيبات التي يعلمها الجميع، بشرط توفر كفيل (موظف) في حال لم أستطع دفع المبلغ الشهري وقدره ثلاثمائة شيكل، سيقوم البنك بخصمه من الكفيل، ووافقت للأسف، وتزوجت قبل عدة أشهر، ومرَّ شهر على زواجي وعشت أيام في الجنة وامتلأ قلبي فرحاً، وبعدها بدأت معاناتي، فلم أستطع توفير المبلغ للمؤسسة، فَبِعتُ ذهب زوجتي لسداد الأقساط وبعد أنّ نفذ الذهب، أصبح الخصم على الكفيل الذي لاحقني قانونياً، وهو كان كفيلي أمام مؤسسة تيسير الزواج بالفعل، لكِن وقعت له على كمبيالات بقيمة مبلغ الكفالو، ويقدر بـ3000 دينار أردني، وفي حال لم أسدد للبنك سيقوم بتقديم الكمبيالات للمحكمة، عدا عن طرقه لبابي كل يوم ويسمعني أقسى الكلام، وبأنه نادم على كفالته لي".
ويتساءل عودة: "ماذا لو لم أتقدم لمؤسسة تيسير الزواج وبقي الوضع كما هو، أنا أتقدم بالعمر وأشارف على دخولي العقد الرابع من العمر، فهل سأصبح راهباً، وهل أنا أخطأت حين فكرت ببناء أسرة؟ لكي أفرح مثل باقي الشباب؟".
مشكلة "عودة" ليست الأولى ولن تكون الأخيرة فطابور الشباب العالقين في المشاكل المالية بعد تقدمهم لمؤسسات تيسير الزواج كبيرة جداً، وحلها لا يكمن بالدفع لتلك المؤسسات وإخلاء سبيلهم من السجن فقط بل يتعدى ذلك بكثير، في ظل مستقبل مجهول لهم ولعائلاتهم في غزّة، والشاب عودة ينتظر الآن مصيره المجهول، ويمر بفترة قلق على مصير زوجته وابنه الذي لم يرى النور بعد.
وفي قصة أخرى لرجل تجاوز الخمسون عاماً، ابتسمت له الحياة كثيراً، ونجح في مشروع استيراد الأقمشة من الخارج، وتوزيعها على المحال التجارية، حيث استمر على هذا الحال سنوات طويلة سنين طويلة لِكن زمن الرفاهية والنجاح لم يدم معه.
وتحدث "أبو علي .س"، لمراسلة "خبر" عن تجربته التي مازالت مستمرة مع الملاحقة والحبس، فقال: "منذ سنوات وأنا أعمل في التجارة، وتوزيع الأقمشة على المحال، ولم أبخل على محتاج، أو تاجر مكسور أو بائع لم يستطع تسديد ما عليه من ديون، وقد تحملت الكثير وقلت في نفسي سأتحمل معهم، وأنتظر أنّ أحصل على ديوني، وقتها لم أكن أحتاج المال كثيراً، فمن خلال أرباحي أستطيع استيراد شحنات جديدة، وبالفعل سار الموضوع على هذا الحال، حتى وقعت أنا بالضائقة المالية، ولم أجد من يقف بجانبي، وبعضهم أدار لي ظهره، وبدأ بالشكوى من الوضع الاقتصادي لكي لا أطالب بحقي الذي عنده".
واستطرد: "جازفت وبعد ذلك أشار علي بعض الأصدقاء أنّ أقوم باستيراد شحنة كبيرة من الأقمشة وأضع كل ما فوقي وتحتي، وستكون أرباحها عشرة أضعاف المبلغ المدفوع، وتشجعت للفكرة، وبدأت بجمع أموالي المجمدة في السوق، واستطعت تحصيل جزء منها والجزء الآخر ظل كما هو لدى التجار والبائعين، ورهنت بيتي واستلفت مبلغاً كبيراً، ودخلت شريكاً بالشحنة الكبيرة، بمبلغ 300 ألف دولار، والتي كان من المفروض أنّ تصل بعد شهر من طلبها لكِنها لم تصل، وأخبرنا المسؤول عن ايصالها لنا من الصين أنّها ستتأخر أسبوع عن الموعد المتفق عليه، وليتها لم تصل فكانت معظم الأقمشة المتفق على إدخالها ليست بالمواصفات المطلوبة، فلم أدري ماذا أفعل هل سأسافر وأحاسب الشركة المصدرة لنا، وهل معي الوقت لكي أسافر، لأنه كان قد جاء موعد دفع المستحقات لبعض الشركات، وموعد صرف بعض الشيكات التي أرجعها البنك لعدم وجود رصيد ، فأصبحت مُلاحقاً للتجار والبنوك، واضطررت لبيع الشحنة بتراب النقود، وبالكاد استطعت تسديد بعض الديون والأخرى لم أستطع إيفاءها، والتي تُقدر بآلاف الدولارات، حتى أصبح مصيري السجن مع تجار المخدرات واللصوص، فأنا الذي كان الجميع يحسب لي ألف حساب، أُسجن على قضايا مالية، ولم أجد من يساعدني، مع أن لي فضل كبير على العديد من التجار، لكِن جميعهم أداروا ظهرهم لي".
وعن مجريات القضايا المرفوعة ضده، قال: "الآن يقوم محامي الشركة بالاتفاق مع البنك والتجار لتقسيط المبالغ المستحقة عليّ بعد وقت محدد، على أنّ يتم الإفراج عني بشكل كامل، وعندي ثقة بأنّ مشكلتي ستنتهي يوماً ما، وبأني سأقف على قدمي من جديد، وبعدها سأضع الجميع عند قدره".
يُذكر أنَّ "أبوعلي" حر لمدة أربعة أيام، حيث خرج ليرى أبناءه وزوجته ويرتاح في بيته، بعد أشهر من المعاناة بين قضبان السجن، وتم إعطائه تصريح الإجازة بعد أنّ تكفل بعودته للسجن أربعة من أبنائه، ومضوا على مبلغ 200 ألف دولار والحبس في حال هرب والدهم ولم يعد للسجن.
فيما يقول المستشار زياد ثابت، رئيس دائرة التفتيش القضائي في قطاع غزّة، بحديث صحفي سابق: "إنَّ إجمالي قضايا الذمم المالية المتوفرة لدى الجهات القضائية 142 ألفاً، بعضها مُرحل من سنوات سابقة وبعضها خلال العام الجاري".
وأشار ثابت، إلى أنَّ الجهات القضائية استقبلت خلال عام 2020، 14 ألف قضية خلال الشهور الست الأولى، وخلال عام 2019 استقبلت الجهات القضائية 44 ألف قضية متعلقة بذمم مالية، أما في عام 2018، فبلغت عدد القضايا 39 ألف قضية، في حين تتراوح نسبة الزيادة السنوية في قضايا الذمم ما بين 5 إلى 10 في المائة، وفقاً لإحصائيات دائرة التفتيش القضائي.
وبحسب ثابت فإن المبالغ البسيطة والمتوسطة تشكل الغالبية العظمى من القضايا التي تصل إلى المحاكم من أجل النظر فيها، في حين من النادر أن توجد مديونيات بأرقام تتخطى 10 آلاف دولار أميركي.
ولم يكن الامر متعلق بالتجار وحدهم، بل وامتد إلى فئة الموظفين الذين كانوا قد سحبوا أقساطاً وديون شخصية ووصل بهم الحال إلى عجزهم عن سدادها، ما أودى بهم إلى السجون مع الحكم على كل واحد منهم على حدا.