ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها السلطة الفلسطينية لقرار وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال كردة فعل على التغول الإسرائيلي في الدم الفلسطيني؛ فارتقاء تسعة شهداء في جنين، يوم أمس الخميس، بعد عملية عسكرية وحشية ضد المواطنين، دفع السلطة لقرارها؛ منعاً للحرج أمام الشارع الفلسطيني الذي يغلي غضباً وحسرة على دماء شهدائه التي تسقط يومياً.
وفي ذات الوقت الذي تُواصل فيه السلطة التنسيق مع الاحتلال، يقتحم الجيش الإسرائيلي المدن الفلسطينية في المناطق الخاضعة لسيطرة السطلة إدارياً وأمنياً وهي المناطق "أ" حسب اتفاقية "أوسلو"، وتستبيح الدم الفلسطيني فتقتل وتُعتقل العشرات، عدا عن تدمير المنازل وهدمها دون رادعٍ من السلطة، التي تقف عاجزة بسبب الاتفاقات التي فرضتها الاتفاقيات مع الاحتلال،.
وقف التنسيق الأمني مع وقف التنفيذ
وسبق أنَّ قرر المجلس المركزي الفلسطيني- وهو هيئة دائمة منبثقة عن المجلس الوطني الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية-، في شهر مارس/ آذار 2015، وقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك في ضوء عدم التزامها بالاتفاقيات الموقعة بين الجانبين.
وفي أكتوبر/ تشرين الثاني 2018، عُقدت دورة للمجلس المركزي كان من أبرز قراراتها تعليق الاعتراف بدولة "إسرائيل" إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ووقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة، والانفكاك الاقتصادي على اعتبار أنّ المرحلة الانتقالية، بما فيها اتفاق باريس، لم تعد قائمة.
وفي أغسطس/ آب من عام 2018، عُقدت دورة للمجلس المركزي حملت القرارات ذاتها الصادرة عن الدورة الأخيرة للمجلس، أهمها: "إقرار توصيات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بتنفيذ قرارات المجلس الوطني وتقديم مشروع متكامل مع جداول زمنية محددة يتضمن تحديداً شاملاً للعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع سلطة الاحتلال إسرائيل، وبما يشمل تعليق الاعتراف بدولة إسرائيل ووقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله".
وفي شهر يناير/ كانون الثاني 2018، عُقدت دورة أخرى للمجلس المركزي، وقرر المجلس تكليف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بتعليق الاعتراف بـ"إسرائيل" إلى حين اعترافها بدولة فلسطين، وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية ووقف الاستيطان، فيما جدد المجلس المركزي قراره بوقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله.
وفي فبراير/ شباط 2022، قرر المجلس المركزي الفلسطيني، تعليق الاعتراف بدولة "إسرائيل" لحين اعترافها بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967 بعاصمتها القدس الشرقية ووقف الاستيطان، ووقف التنسيق الأمني بأشكاله المختلفة. وكلَّف المجلس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بإعادة صياغة مؤسسات السلطة الوطنية بما ينسجم مع تجسيد سيادة دولة فلسطين على أرضها. كما جاء في بيانه الختامي.
الولايات المتحدة الأمريكية، الراعي الرسمي للمفاوضات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، اعتبرت أنَّ قرار تعليق التنسيق الأمني مع "إسرائيل" ليس في محله، مُؤكّدةً على أنَّ الحاجة حالياً هي لمزيد من التنسيق والتواصل بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" لخفض حدة التوتر.
لكِن السلطة الفلسطينية، أكّدت عبر المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، على أنَّ التعاون الأمني مع "إسرائيل" "لم يعد قائماً" بعد ما حدث في جنين. وطالب لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة بالتحقيق في ما وصفها بـ"مجزرة جنين" وإحالة النتائج لمجلس الأمن، لافتاً إلى أنّه سيتم أيضاً التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية لإضافة ملف مجزرة جنين للملفات السابقة التي تورط فيها الاحتلال.
عساف: وقف التنسيق ينبغي أنّ يتزامن مع إطلاق سراح المعتقلين
من جهته، رأى الكاتب والمحلل السياسي، عمر عساف، أنَّ "السلطة الفلسطينية عندما تتحدث عن وقف التنسيق الأمني، يكون الهدف من ذلك ذر الرماد في العيون؛ لأنّه سبق أنّ أعلنت عن وقفه في الأعوام 2015 و2018 و2022 ومن ثم عادت للتنسيق الأمني، دون استشارة أحد".
وقال عساف، في حديثٍ خاص بوكالة "خبر": "إنَّ قرار السلطة وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، يحتاج إلى ترجمة على الأرض؛ كي لا يثق الشعب قليلاً بما تقوله السلطة"، مُضيفاً: "ينبغي أنّ يتزامن إعلان السلطة وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، نع إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين والمتهمين بقضايا المقاومة".
وتابع: "قرار السلطة وقف التنسيق الأمني يحتاج إلى وقف للتنفيذ؛ وحتى تتجنب السلطة أيّ ضغوط للتراجع، مطلوبٌ منها ليس فقط أنّ تدعو إلى اجتماع طارئ للفصائل، وإنّما عقد لقاء وطني جامع للقوى والفعاليات والشخصيات والمؤسسات عنوانها استراتيجية جديدة خارج إطار أوسلو".
وتساءل: "ماذا تعني هذه القرارات وبعد يومين سيلتقي الرئيس محمود عباس، بوزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن؟، ولماذا يأتي بلينكن إلى هنا؟"، مُردفاً: "زيارته إما ليضغط على السلطة أو أنّ يُقدم لها ما يضمن عودتها إلى ما يُمكن أنّ يُقال عنه مفاوضات أو غيرها".
ونوّه عساف، إلى أهمية صدور قرار وطني جامع بـ" تجريم التنسيق الأمني" وليس فقط إلغائه، وأنّ كل من يعود للتنسيق الأمني مجرم يضر بمصالح الشعب؛ خاصةً في ظل الأحداث اليومية التي تؤدي لاستشهاد واعتقال العشرات، عدا عن مصادرة الأراضي وتهويد القدس.
منصور: "تعليق التنسيق" مخرج للأزمة لإرضاء الشارع
أما المختص في الشأن الإسرائيلي، عصمت منصور، فقد أوضح أنَّ "الاحتلال الإسرائيلي اعتبر خطوة السلطة تعليقاً للتنسيق الأمني أو تجميده، وليس قطعاً كلياً"، مُستدركاً: "الإسرائيليون اعتبروا أنَّ خطوة السلطة جاءت من أجل امتصاص رد فعل الشارع الفلسطيني، وقد تم صياغة بيانها بطريقة "حذرة"، وتحدثوا عن تدخلات مصرية وأردنية وأوربية وأمريكية من أجل تليين القرار وعدم اعتباره نهائياً".
وأردف منصور، في حديثه لمراسلة "خبر": "تعليق السلطة الفلسطينية، التنسيق الأمني واحدة من مخرجات الأزمة حيث تم تليين القرار وتحويله إلى نوع من "التعليق وإبقاء الباب مفتوحاً، وهكذا تعامل الإعلام الإسرائيلي مع قرار السلطة، لكِن هناك من استخف بقرار السلطة من المعلقين الإسرائيليين واعتبره غير جدي ومؤشر على أنّ السلطة تتعرض لضغوط من الشارع".
وأضاف: "لكِن بكل الأحوال سياسية حكومة نتنياهو واستمرارها بكل تأكيد لن تسمح بعودة تنسيق أمني بشكل مفتوح وسلسل كالسابق".
منصور: قرار السلطة بدون رصيد مع وجود قنوات مفتوحة مع "إسرائيل"
وبسؤاله عن قيمة القرار في ضوء مسعى "إسرائيل" لضم مناطق "ج" وإخضاع الضفة " للإدارة العسكرية" التابعة لها، بيّن منصور، أنَّ "قرار السلطة وقف التنسيق الأمني، لن يؤثر على إسرائيل حيث أنّها لن تتضرر؛ لأنَّ بعض القنوات ما زالت مفتوحة والقرار ليس حاسماً"، مُتابعاً: "الجدية في مثل هذا القرار تتطلب خطوات أخرى تتعلق بالوضع الداخلي الفلسطيني والعلاقات والفجوة بين الشعب والسلطة وبين الفصائل مع السلطة".
واستدرك: "قرار السلطة جاء بعد ارتقاء تسعة شهداء في جنين صباح أمس، ما يُبيّن أنّه "إعلامي" فقط، ولا تطبيق ولا رصيد له على الأرض، أما وجهة نظر إسرائيل حسم الصراع في مناطق "ج" وفرض واقع يقضي كلياً على حل الدولتين ويضعف السلطة إلى درجة تهميشها إلى نوع من الإدارة الذاتية الإدارية في مناطق الكثافة الفلسطينية".
ورأى أنَّ ما سبق ذكره يستدعي من السلطة الإقلاع عن كل الرهانات التي تعول فيها على الجانب الإسرائيلي والتوصل معه إلى نوع من التفاهمات خاصةً مع الحكومة الحالية، مُشيراً إلى أنّه في عهد الحكومات الإسرائيلية السابقة كان الحديث عن الحل الاقتصادي الأمني فقط.
وبشأن مواصلة "إسرائيل" عملياتها العسكرية في شمال الضفة رغم قرار السلطة وقف التنسيق الأمني، قال منصور: "إنَّ إسرائيل ستواصل عملياتها العسكرية بوتائر مختلفة وأشكال مختلفة ولا أحد يضمن ألا تقود إلى مجازر كما حدث اليوم. فما جرى اليوم سيناريو قابل أنّ يتكرر كل يوم".
ولفت إلى أنَّ حكومة الاحتلال الحالية لا تمتلك أيّ أداة للتعامل مع الفلسطينيين، سوى القوة والعنف، فهذه لغتها الوحيدة التي ستقود في النهاية إلى تفجير الأوضاع.
وعن المطلوب من السلطة الفلسطينية، لتنفيذ فعلي لقرار وقف التنسيق الأمني، أوضح منصور، أنَّ "السلطة مُطالبة بتغيير سياستها الحالية، ووقف الرهان على إمكانية أنّ يأتي تغيير من قبل "إسرائيل" بدون ضغط، ودون وحدة فلسطينية ومقاومة على الأرض".
وختم منصور حديثه، بالقول: "إنّه على السلطة أنّ تبدأ في ترميم علاقتها مع شعبها، وأنّ تُعيد بناء المؤسسات على أسس نزيهة وديمقراطية وشفافة، وأنّ تُنهى الانقسام بشكل كلي، لأنّه فقط بهذه الروافع تستطيع السلطة وقف التنسيق الأمني وسحب الاعتراف بإسرائيل، وأيّ خطوة تصعيدية تجاه الاحتلال تكون محصنة بالشعب وبالقوى الوطنية من حولها، لكِن بوضعها الحالي هي أضعف من أنّ تخطو هذه الخطوة".