يستمد مسار المصالحة التركية-السورية زخمه من عدة مصادر: أولها؛ الاستعجال التركي لحفزه ارتباطاً بالاستحقاق الانتخابي الوشيك، ورغبة أردوغان في نزع الورقة السورية من يد المعارضة.. ثانيها؛ حرص الكرملين على التجديد لأردوغان وحزبه في الانتخابات القادمة، ليس لرغبة فيهما، وإنما خشية من معارضة ذات "ميول أطلسية" معروفة.. ثالثها؛ دعم إيران لهذا المسار على خلفية المصلحة المشتركة في تحجيم "المسألة الكردية"، سيما بعد الاحتجاجات الأخيرة.. رابعها؛ دعم عربي لهذا المسار أملاً في استحداث توازن مع النفوذ الإيراني في سورية.
يجري التفكير بإعادة انتشار العناصر والوحدات الكردية على مسافة آمنة من الحدود مع تركيا، واستبدالها بعناصر ووحدات عربية، تحمل شكلاً اسم "قسد"، ولكنها تتبع فعلياً للقيادة الأميركية. لكن هذا الزخم تعترضه عوائق يتعين تذليلها لضمان وصول هذا المسار إلى خواتيمه.. أهمها الموقف الأميركي المتحفظ بشدة على أية محاولات انفتاح على دمشق، وبالأخص بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، ومنها وجود قوى صلبة على الأرض تناهض المصالحة وتخشى عقابيلها (قسد في الشمال الشرقي، وهيئة تحرير الشام في الشمال الغربي)، ومنها أيضاً، الاستمهال السوري في إتمام المصالحة، أملاً بوصول المعارضة التركية سدة الحكم، ورهاناً على فرص توقيع اتفاق أفضل معها.
من بين مختلف هذه العوائق، يظهر الموقف الأميركي بوصفه العقبة الأهم، التي قد تعرقله أو حتى تطيح به، وفي الأنباء أن واشنطن، ومن موقع مصلحتها في اجتذاب أنقرة، سيما في ظروف الأزمة الأوكرانية وتزايد مكانة الأخيرة الاستراتيجية في المعادلات الدولية، تنتوي تقديم عرض لتركيا يصعب عليها مقاومته.
لذلك نراها تتحرك في اتجاهين: الأول؛ رفع بعض القيود على توريد أنواع معينة من الأسلحة لتركيا (طائرات إف 16 مثلاً) إلى جانب رزمة من التفاهمات الأمنية والدفاعية، والثاني؛ إعادة هندسة المعارضة السورية، بشقيها العربي والكردي، بما يستجيب لأكبر مخاوف أنقرة.
في هذا السياق، يجري الحديث عن محاولات أميركية لإعادة هيكلة "قسد"، إن بإشاعة نوع من "اللامركزية" في بنية هذه القوات ومناطق انتشارها، أو عبر توسيع المشاركة العربية فيها، هنا تحضر مجموعة "ثوار الرقة" التي أعيد الاعتبار لها ولغيرها، ودائماً بهدف ضمها إلى "قسد"، لاستحداث هذا التوازن.. وفي السياق ذاته، يجري التفكير بإعادة انتشار العناصر والوحدات الكردية على مسافة آمنة من الحدود مع تركيا، واستبدالها بعناصر ووحدات عربية، تحمل شكلاً اسم "قسد"، ولكنها تتبع فعلياً للقيادة الأميركية، وربما لا يجري التمسك باسم "قسد" في مرحلة لاحقة، إن كان الأمر يبعث برسائل طمأنينة لتركيا.
واشنطن تريد التجاوب مع مطالب أنقرة بإبعاد الكرد عن حدودها، سيما "الاتحاد الديمقراطي" المقرب من حزب العمال التركي المحظور، بيد أنها لا تريد لقوات النظام السوري أن تحل محلها، وهي لهذا السبب تبحث عن بدائل من داخل الفصائل العربية المعارضة، فلا تكون "كردية" محسوبة على "قسد"، ولا عربية معارضة محسوبة على أنقرة، لأن أمراً كهذا سيفتح باباً لحرب أهلية في مناطق تواجد القوات الأميركية بين خصوم أنقرة الكرد، وحلفائها العرب.
البديل يتمثل في تشكيل هياكل جديدة يطغى على تكوينها العنصر العربي، وبقيادة أميركية مباشرة، ودفع "قسد" للخلف، وتفكيك نفوذها المهيمن على عرب المنطقة.
هل ستقبل أنقرة بهذا العرض وتتخلى عن مسار المصالحة مع دمشق؟.. من المشكوك فيه أن تطمئن أنقرة لهذه الترتيبات، ومن غير المرجح أن تقامر واشنطن بعلاقاتها مع الحليف التركي لصالح حليفها الكردي.
لذا، يمكن الاستنتاج بأن واشنطن قد تعرقل هذا المسار لبعض الوقت، ولكن من الصعب عليها إحباطه، فما بين دمشق وأنقرة من مصالح مشتركة أقوى بكثير مما يطفو على سطح علاقاتهما من خلافات.. قطار المصالحة بين البلدين انطلق، وواشنطن تستطيع أن تستبقيه فترات أطول في بعض محطاته، ولكن هيهات أن تنجح في إخراجه عن سكته.