مسلسل زيارات المسؤولين الأميركيين لإسرائيل خلال الشهر الأول من عمر الحكومة الإسرائيلية الفاشية، يؤشّر إمّا إلى ضعف إدارة جوزيف بايدن، أو إلى حاجتها لاسترضاء هذه الحكومة، التي سجّلت عليها الإدارة، شيئاً من التحفّظ بسبب اشتمالها على أحزاب ووزراء ينتمون إلى عالم الإرهاب.
خلال الشهر الأول، زار إسرائيل وفد من الكونغرس ثم تلاه مباشرة مسؤول الأمن القومي، ثم رئيس جهاز المخابرات ويليام بيرنز وأخيراً ولا يبدو أنه آخراً وزير الخارجية أنتوني بلينكن.
هذا بالإضافة إلى أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي أجريا مناورة عسكرية ضخمة للتأكيد على عمق التحالف بينهما، ولإضفاء مصداقية على الموقف الأميركي الثابت إزاء دعم وحماية أمن إسرائيل وتفوُّقها.
الذريعة التي يتحدث عنها المسؤولون الأميركيون كأهداف لهذه الزيارات، هي محاولة خفض التصعيد الذي بلغ مؤخّراً مستويات تهدّد بانفجار الأوضاع، ثم تنسيق المواقف والسياسات، الهادفة لمنع إيران من امتلاك قدرات نووية ترغب الولايات المتحدة بأن يتم ذلك عَبر مسارات دبلوماسية، وترغب إسرائيل بأن يتم ذلك عَبر توريط أميركا في حرب واسعة.
الخطاب الأميركي لمعالجة موضوع خفض التصعيد وتحقيق الهدوء، يأخذ على الجانب الفلسطيني شكل الوعود المتكرّرة، التي لا تجد لها سبيلاً للتنفيذ.
تواصل الولايات المتحدة إعلان الالتزام بـ»حل الدولتين» باعتباره الأفضل وبأنها تعارض توسيع الاستيطان، وتعارض الخطوات أُحادية الجانب، وتؤكّد على أهمية عدم إلحاق ضرر أو تغيير في الوضع القائم في القدس.
ولبيع المزيد من الأوهام، يتحدث بلينكن على أن الإدارة الأميركية لا تزال تعمل من أجل افتتاح القنصلية الأميركية في القدس، وبأنها ستقدم دعماً مالياً للسلطة.
في الواقع، فقد جرى اختبار هذه الوعود الموهومة التي لم يعد بالإمكان تسويقها على الفلسطينيين، فلقد دخلت الإدارة عامها الثالث دون أن تنفذ أيّاً من الوعود التي قطعها رجالاتها على أنفسهم خلال الحملات الانتخابية وبعد أن تمّ انتخاب الرئيس بايدن.
باستثناء تقديم الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من التزاماتها المالية تجاه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، فإنها لم تفعل شيئاً لتحفيز الأطراف على الدخول في مفاوضات، ولم تعد فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، كما لم تفعل شيئاً لإعادة فتح قنصليتها في القدس.
يعتقد المسؤولون الأميركيون أن تعيين المبعوث هادي عمرو، كقناة اتصال وتواصل مع الفلسطينيين، مؤشر على جدّية مختلفة عن السابق، وخلال زيارة بلينكن لم يصدر عنها سوى قرار بتقديم خمسين مليون دولار لصالح «الأونروا».
ما عدا ذلك لم يتغير الموقف الأميركي عملياً من التوسُّعات الاستيطانية ولم تبد واشنطن اعتراضاً ملموساً على هدم بيوت الفلسطينيين، وكان اعتراضها شكلياً على الاقتحامات المتكرّرة للمسجد الأقصى. كما أنها تواصل حماية إسرائيل في مؤسسات الأمم المتحدة، ولا تتأخّر عن إدانة ما تصفه بالإرهاب الفلسطيني.
الموقف الأميركي معروف ومكشوف ومفضوح إزاء جريمة اغتيال المواطنة الأميركية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة.
لتصريف تواطئها أو عجزها في ملف اغتيال شيرين، قيل إن الإدارة اتخذت قراراً بتكليف الـ»أف. بي. آي» للقيام بالتحقيق، ثم لم يعد أحد يسمع عن ذلك مع مرور الوقت.
تدرك الولايات المتحدة، عَبر أدواتها الكثيرة والفاعلة العاملة في الميدان أن إسرائيل هي التي تتحمّل المسؤولية عن التصعيد في كلّ الاتجاهات، ولكنها حين تتدخل تضغط على الطرف الفلسطيني، وتمالئ الطرف الإسرائيلي.
كان الأمر دائماً على هذا النحو، وحين تقدم للفلسطينيين جزرة، فإنها تكون «خامجة»، وصغيرة بينما تقدم للإسرائيليين مكافآت ضخمة ومجزية.
يريد الوسطاء الأميركيون من السلطة أن تضبط الفصائل والجماعات المسلّحة بما في ذلك ما يسمُّونه «الذئاب المنفردة»، وتريد منها، أيضاً، التوقف عن التوجه إلى المؤسسات الدولية فيما يتعلق بالجرائم الإسرائيلية، وتريد منها مواصلة «التنسيق الأمني».
ما الذي تقدمه مقابل ذلك سوى المزيد من الوعود الكاذبة، وحديث عن دعم مالي وتسهيلات اقتصادية، لكنها لا تقدّم أي ضمانات لإلزام إسرائيل بوقف اعتداءاتها على القدس والبيوت والأراضي والممتلكات والكرامة الفلسطينية، واقتحامات المدن والمخيّمات والقرى، هذا فضلاً عن عجزها عن إلزام إسرائيل بوقف الاستيطان أو تسليح المستوطنين، أو وقف التغوّل الإسرائيلي في القدس وعلى المقدسات الإسلامية والمسيحية.
واضح أن إدارة بايدن، لا ترغب في انفجار الأوضاع في المنطقة، وأن أولوياتها تتّجه نحو الصين وروسيا والكوريتين، وواضح، أيضاً، أن الإدارة الديمقراطية تحسب ألف حساب لإسرائيل إزاء موضوع الانتخابات الرئاسية التي سيبدأ النشاط بشأنها في العام القادم.
لذلك، تلحس الإدارة تصريحاتها المتحفّظة على التعامل مع بعض وزراء حكومة نتنياهو، عَبر التأكيد على أنها تتعامل مع الحكومة أيّاً كان رئيسها رغم معرفتها الأكيدة، بأن هذه الحكومة مختلفة وتحمل مؤشرات خطر على إسرائيل نفسها.
ثمة تجربة طويلة بين نتنياهو والإدارات الديمقراطية أبرزها السنوات الثماني التي ترأّسها باراك أوباما، الذي تلقّى هو وإدارته الكثير من الإهانات العلنية والمباشرة، وفي الأخير تلقّى نتنياهو الكثير من المكافآت، دون أن يقدم أي تنازل.
نتنياهو يعرف كيف يلوي ذراع إدارة بايدن الضعيفة، حيث يصعّد تهديداته، وحتى اعتداءاته على إيران، ما يضطر الإدارة لأن تقدم له المزيد من المكافآت حتى لا يؤدّي ذلك إلى انفجار واسع في المنطقة.
في المحصّلة فإن هذا الجهد الأميركي سيذهب هباءً أمام إصرار حكومة نتنياهو، على مواصلة إصدار قوانين عنصرية، ومواصلة العمل على برنامجها الاقتلاعي.
على الجانب الآخر وفي ظلّ هذه السياسة الإسرائيلية الإجرامية فإن دائرة المقاومة ستتّسع، خصوصاً أنها ليست من إنتاج السلطة الوطنية الفلسطينية، ونظراً لأن إسرائيل تواصل إضعاف قدرة السلطة على السيطرة وضبط الأوضاع.