افتتح رئيس الفترة الانتقالية، رئيس الجمهورية، رأس الدولة، الفريق أول محمد إدريس ديبي إتنو (الصفة الرسمية في الموقع الرسمي للرئاسة التشادية) سفارة لبلاده، تشاد، في تل أبيب. وقع هذا الحدث يوم الخميس الماضي. وفي اليوم نفسه، استقبل رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني (الفريق أوّل) عبد الفتاح البرهان، في العاصمة الخرطوم، وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهن، الذي جاء حاملاً مسوّدة لاتفاقية سلام بين البلدين.
وبعد يومين، تناقلت منصّات إخبارية مختلفة تصريحات (تغريدات) لبن جاسم رئيس وزراء، ووزير خارجية قطر الأسبق، تساءل فيها عمّا سيجنيه السودان من فائدة الانفتاح على إسرائيل "في هذه الظروف"، وغمز فيها، أيضاً، من قناة أطراف، لم يسمّها، تنصح السودان بالعلاقة مع إسرائيل، علماً أن العلاقة المعنية تعود بالفائدة على الناصحين أكثر من السودان نفسه، كما قال.
يمكن التعليق على هذا بما لا يحصى من المداخل. ولكن، ولأسباب تندرج في الفكرة الرئيسة في هذه المعالجة، نبدأ بالبصري والمشهدي، وعمّا يمكن استخلاصه من لغة الجسد من دلالات. ففي حفل افتتاح السفارة تقع العين على صورة لنتنياهو قابضاً على يد ديبي الممدودة للسلام بيديه. ابتسامة نتنياهو ليست عريضة تماماً، ولكنها مُشبعة بالرضا الذاتي، وفي تعبيرات الوجه ما يشبه الإشفاق.
وفي المشهد الثاني نرى (الفريق أوّل) البرهان مصافحاً وزير الخارجية الإسرائيلي، وبقية الضيوف. أهم ما في المشهد، إضافة إلى ابتسامة عريضة تربعت على كامل الوجه (لاحظها، وعقّب عليها، حتى بن جاسم) نرى البدلة العسكرية، النظيفة، واللامعة، والمكوية جيداً، إضافة إلى مرونة مدهشة في المصافحة باليد الواحدة، وباليدين، في مرّة لاحقة، وما يشع في حركة الجسد من طاقة إيجابية.
ومع هذا كله في البال، فلنقل: إن التساؤل عن الفائدة التي سيجنيها السودان "من الانفتاح على إسرائيل"، يبدو فائضاً عن الحاجة. هذا يصدق على تشاد، أيضاً. وفي السياق نفسه، فإن في الكلام عن النصائح الفاشلة، التي "تفيد مقدميها أكثر مما تفيد السودان" ما يُحرّض على محاولة (من جانبنا) للتوضيح.
ولنبدأ بموضوع "الفائدة". فثمة فائدة تعود على ديبي والبرهان بالمعنى الشخصي، والحرفي، للكلمة. الأوّل تولى الحكم بعد مقتل أبيه قبل عامين (فترة انتقالية ستصبح دائمة). أبوه حكم تشاد لمدة ثلاثين عاماً، ويمكن للابن (39 عاماً) أن يحكم لمدة أربعة عقود لاحقة، إذا ضمن دعم وحماية رعاة إقليميين ودوليين في الصراعات القبلية على الثروة والسلطة في بلاده.
أما الثاني، البرهان، فهو من جنرالات حاكم السودان المخلوع، البشير، المتهم بارتكاب جرائم حرب، والمطلوب لمحكمة الجنايات الدولية. ويمكن لهؤلاء الجنرالات، ومنهم البرهان الذي كان قائداً للقوات البرية، أن يجدوا أنفسهم في قائمة المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية، أو حتى للعدالة في السودان نفسه، في حال إنشاء سلطة مدنية تسعى للتكفير عن جرائم العهود السابقة.
للحيلولة دون إنشاء سلطة مدنية، ولحماية الجنرالات من الملاحقة، بعد التضحية برأس النظام، يمثل البرهان وجه الثورة المضادة في السودان. وقد جاء إلى سدة الحكم بمساعدة أطراف محلية، وإقليمية، ودولية، رداً على موجة الربيع العربي. لذا، ومع وجود رعاة، وحماة، وداعمين إقليميين ودوليين، يمكن للبرهان أن يبقى في سدة الحكم لعقود لاحقة. والواقع أن دوره لا يقتصر على السودان، فقد ورث الانخراط في الحرب الأهلية اليمنية من خلال قوّات سودانية نظامية، في عدن، عن رئيسه المخلوع. ويمكن أن يفعل الشيء نفسه في مناطق أُخرى.
وبناء على كل ما تقدّم، لا فائدة من الكلام عن الفائدة "التي ستعود على السودان"، فلا أحد يفكر بهذه الطريقة. وعدم التفكير بهذه الطريقة من علامات خراب العالم. ومع ذلك، هذا لا يعنينا الآن. فقد ألمحنا إلى ضرورة التعقيب على "فائدة تعود على مقدمي النصائح أكثر مما تعود على السودان". في هذا تسديد لضربات تحت الحزام، وغمز في قناة إبراهيميين، لم يذكرهم بن جاسم بالاسم، ولكنهم صاروا معروفين حتى دون اجتهاد في التعريف، بل ويتجلى في علاقتهم بإسرائيل ما يشبه عودة لمكبوت ما بعد طول انتظار وعناء.
والمهم أن ما يعود على هؤلاء من فائدة دور الوسيط، ومنافع الوساطة، بين إسرائيل وآخرين في الإقليم، يندرج في سياق طموح غير مشروع يتمثل في التعاون مع إسرائيل لإعادة صياغة وتشكيل الحواضر العربية، بما يضمن الهيمنة، والمنفعة المادية والمعنوية للطرفين.
وليست المشكلة، هنا، في القول: إن هذا الطموح محكوم عليه بالفشل، وإن في التاريخ، والجغرافيا، والديموغرافيا، ما يضعه في خانة الوهمي والمرضي في آن، بل المشكلة أن في مجرّد وجود طموحات كهذه ما يدل على مدى ما أصاب العالم من خراب.
أخيراً، يعترف بن جاسم في تصريحاته (تغريداته) بأن بلاده أقامت علاقة مع إسرائيل في وقت مضى، وقد فعلت ذلك لأسباب خاصة، ودون نصيحة من أحد. يمكن لديبي والبرهان القول: "أنا أفعل هذا لأسباب خاصة، ودون نصيحة من أحد". ويمكن لهذا أو ذاك المزايدة علينا بالقول: "أفعل هذا خدمة لبلادي". فالمشكلة، هنا، ليست في وجود أسباب خاصة، ولا في الصراع على تأويلها، بل المشكلة فيما أعقب انهيار الحواضر، بما فيها نحن، وصعود الهوامش، من خراب يبدو وكأنه أصاب العالم، وتبدو فيه فلسطين ضحية مثالية، ومالاً سائباً، لكل طامح في الحكم، أو "خادم" لشعبه.