رغم البيان القوي الذي صدر عن الدول الغربية الخمس الكبرى، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، وأميركا، الذي جاء ردا على قرار الكابينت الإسرائيلي، بإطلاق دفعة هائلة من الاستيطان، تبلغ نحو عشرة آلاف وحدة سكنية، والذي شجع القيادة الفلسطينية على التقدم نحو مجلس الأمن، لإصدار قرار يمنع الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ ذلك القرار، الذي أقل ما يقال فيه إنه سيصدر شهادة وفاة رسمية لحل الدولتين، ورغم تقدير إسرائيل بأن تسع دول من أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر ستصوت مع القرار، إلا أنه من غير المرجح أن يصدر ذلك القرار، فإسرائيل تعول كالعادة على الفيتو الأميركي، هذا رغم أن واشنطن كانت ضمن الدول الخمس المشار إليها، والتي سبق لها وحذرت كثيرا في الآونة الأخيرة إسرائيل من التمادي في إطلاق مشاريع الاستيطان غير الشرعي، ورغم أن لواشنطن سابقة وحيدة بهذا الصدد، حين سمح الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما بتمرير قرار من مجلس الأمن، يدين الاستيطان ويطالب بوقفه، وذلك قبل أيام من مغادرته البيت الأبيض العام 2016.
والسبب الذي يدعونا لترجيح أن تستخدم الولايات المتحدة حق النقض الفيتو ضد مشروع القرار الفلسطيني، هو أن تل أبيب سارعت على الفور، لاحتواء الغضب الأميركي، عبر فتح باب الحوار وقدمت لها «تنازلا» طفيفا، على الأغلب أن يكون كافيا لحفظ ماء وجه واشنطن، وذلك بتخفيض عدد المستوطنات التي نص قرار الكابينت على شرعنتها، من 14 إلى 9، والرقم 9 لم يأت اعتباطا، بل هو يساوي عدد القتلى الإسرائيليين الذين ذهبوا ضحية عمليتي إطلاق النار والدهس في القدس المحتلة مؤخرا.
أي أن التنازل الإسرائيلي ليس جوهريا، بل هو أسلوب التاجر الشاطر، حين يكون المشتري الذي أمامه مغفلا، أو أن يكون مجرد وسيط تجاري، لا يهتم كثيرا بتفاصيل الصفقة التجارية، ما دام هو ليس طرفا أساسيا فيها، بل مجرد وسيط، يحصل على عمولته، واستخدام واشنطن لحق النقض يؤكد أن كل كلامها عن حل الدولتين، ومعارضتها للاستيطان الإسرائيلي، ما هو إلا كلام فارغ، وأن قلب واشنطن ليس على حل الدولتين، بل عينها على منسوب التوتر، فهي فقط تريد أن يبقى كل شيء على ما هو عليه، وأن تمضي إسرائيل قدما في احتلالها، وحتى في ترسيخ وجودها الاحتلالي عبر الاستيطان، ولكن بهدوء، أي دون أن تصل الأمور إلى قلب الطاولة، بما يطلق مواجهة حامية ميدانيا، ستكون محرجة حينها، في الدفاع عن إسرائيل، أمام العالم، وهو يتابع المجازر التي سترتكبها إسرائيل حينها.
كذلك تبقى دلالة الرقم 9 تحمل في طياتها خطا سياسيا إسرائيليا عنصريا، لو أن واشنطن صمتت عليه، أو باركته، فإن ذلك يعني أنها - أي الولايات المتحدة - تشد على يد إسرائيل العنصرية، وتغطي على سلوكها الفاشي، فأولا هذا ترجمة للاتفاق بين اليميني الاحتلالي بنيامين نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل، ووزير أمنه القومي العنصري الفاشي إيتمار بن غفير، ويعني أنهما اتفقا على الرد على عمليات مقاومة الاحتلال بإقامة المستوطنات، ومقابل كل قتيل إسرائيلي يسقط، تقام مستوطنة على الأرض الفلسطينية، وذلك إضافة بالطبع لكل تلك الإجراءات القهرية التي اعتادت إسرائيل على القيام بها، والتي تندرج في إطار العقوبات الجماعية، من هدم المنازل، والسطو على أموال السلطة التي تمنح لعائلات الأسرى والشهداء، إلى سحب الجنسية والإقامة، ومصادرة أموال أهالي منفذي العمليات، بل وفرض الحصار الذي عادة ما يستمر أياما وأسابيع على المدن أو القرى التي يخرج منها المقاومون.
وحيث إن الأمور وصلت إلى هذا الحد، فإنه يتوجب على أميركا بوصفها الدولة التي تقود العالم، أن تفسر لنا لماذا هي ضد الاستيطان، أمن منطق سياسي، أم من حيث المبدأ، أليس الاستيطان فعلا منافيا للقانون الدولي، ومقاومته واجب إنساني، فحتى الاتفاقيات الموقعة بين فلسطين وإسرائيل، تضمنت اعتراف إسرائيل، بأن الأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، محل تفاوض ليس من حيث كونها محتلة، بل لجهة الاتفاق على الحدود الخارجية بين الدولتين، ولجهة تقرير مستقبل المستوطنات، حيث عرضت إسرائيل أكثر من مرة فكرة تبادل الأراضي، أي منح فلسطين أراضي منها مقابل تلك المقامة عليها المستوطنات.
كذلك فإن صمت واشنطن وغيرها على منطق بن غفير - نتنياهو الخاص بإقامة مستوطنة مقابل كل قتيل إسرائيلي، يعني موقفا عنصريا، فحيث يتم التعامل مع ضحايا الصراع بين الاحتلال ومقاومته، على قاعدة من التمييز هو منطق عنصري بكل معنى الكلمة، وإسرائيل مقابل هؤلاء الضحايا التسع، قتلت منذ بداية هذا العام، أي منذ تولت حكومة التطرف العنصري مقاليد الحكم 48 فلسطينيا، والرد على اتفاق نتنياهو - بن غفير يعني بكل بساطة هدم مستوطنة مقابل كل شهيد فلسطيني، أي هدم 48 مستوطنة إسرائيلية من على الأرض الفلسطينية.
أما على الصعيد الفلسطيني، في مستواه الفصائلي، على الأقل، فلا بد له أن يعلن أن المستوطنات، هي وجود احتلالي على أرض دولة فلسطين، ومقابل السياسة الإسرائيلية المصرة على الاستمرار بإقامته، لا بد من إعلان فلسطيني صريح، يحدد الهدف الفلسطيني بمقاومة هذا الاستيطان وتفكيكه، ومقابل متابعة إسرائيل إقامته، فإن المقاومة الفلسطينية ستواصل السعي لتفكيكه وهدمه.
مختصر القول، إنه على الجميع، وبالتحديد الولايات المتحدة وإسرائيل الإقرار بأن أرض الضفة الفلسطينية هي أرض محتلة، وأن جذر المشكلة وأس الصراع يكمن في عدم اعتراف إسرائيل بأنها تحتل هذه الأرض، وأنها لا تعرف الضفة الغربية بالأرض المحتلة، وهذا هو جذر الصراع، وهذا سبب وقوفها في مواجهة العالم والقانون الدولي، الذي يعتبر بما فيه أميركا، أن القدس الشرقية والضفة الغربية هي أرض محتلة، لا يجوز التعامل معها على غير ذلك الأساس، ولكن لا أميركا ولا العالم يجبر إسرائيل على أن تخضع للقانون الدولي، ولا للإرادة الدولية، وهذا عكس كل ما تنادي به أميركا والعالم الحر من ديمقراطية ومن سيادة القانون المحلي في الدول والقانون الدولي على الدول.
وللتذكير، نقول إن نتنياهو نفسه، كان فيما مضى يبرر للأميركيين، قرارات حكوماته السابقة برعاية الاستيطان، بحجة التوسع الطبيعي من أجل توفير الخدمات للمستوطنات القائمة، وزيادة البناء فيها فقط من أجل الزيادة السكانية فيها الناجمة عن التوالد الطبيعي، لكن الآن، أصبح التصريح الاحتلالي يكشف حقيقة حكومة التطرف العنصري الحالية، من خلال الجرأة بالتصريح الذي يعتبر الأرض الفلسطينية أرضا إسرائيلية، وهذا ما وصل إليه الحال الإسرائيلي مع بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، حيث قال الوزير العنصري الذي يتولى منصب وزير المالية، والوزير في وزارة الجيش، بعد أن اعتبر الرد الأميركي على شرعنة 9 بؤر استيطانية عشوائية، المشار إليه، بأنه رد فعل معقول جدا، وحيث أكد التزام حكومته بشرعنة تلك البؤر وإقامة عشرة آلاف وحدة سكنية، وإزالة كل قيود البناء في المستوطنات، حسب وصفه، تابع القول، إنه هكذا تدار الأمور في هذه المنطقة (يقصد الضفة الفلسطينية) مثل أي منطقة أخرى في دولة إسرائيل.
مؤكداً في إشارته لتنازع الصلاحيات بينه وبين وزير الجيش يوآف غالانت، أن الهدف هو إدارة حياة المستوطنين من قبل وزارات الحكومة وليس من قبل الجيش، وكل هذا يعني شيئا واحدا واضحا وصريحا وهو الضم، ضم الأرض الفلسطينية المحتلة لدولة إسرائيل، وإنهاء احتلالها على هذا الشكل، وليضرب الفلسطينيون والعالم كله بما في ذلك الدول الخمس التي أصدرت بيانها ضد قرار الكابينت، بما فيها أميركا رأسها بجدار الاحتلال أو بجدار الفصل العنصري.