فلسفة شاري دماغه

حجم الخط

بقلم د. أسامه الفرا

 

 

 ما أن سألته عن أحواله والسر في إعتزاله المبكر للحياة العامة وسبب توقفه عن الكتابة حتى علت الإبتسامة وجهه وأجاب بأنه شاري دماغه منذ زمن، كأن إجابته المقتضبة هي خلطة الأعشاب السحرية التي إهتدى إليها لوقف تدهور الحالة المرضية لزمن أصبح فيه الحليم حيراناً، كان من الكتاب القلائل ممن ينقبون عن أفق سقط سهواً أو عمداً من محترفي السياسة، لطالما حاول أن يسلط الضوء على مساحات الظل البعيدة عن أعين العامة وكأنه يستكشف مع القاريء دهاليز المخفي من السياسة، كان يوزع كتاباته الأقرب للتحليل منها للمقال على الصحف فيما يختص مجلة البيادر السياسي بمقال مطول في عددها الاسبوعي، رغم أن كتاباته السياسية تتسم بالكثير من الإحترافية إلا أنه يصنف من الكتاب الهواة كونه لم يتقاض يوماً أجراً نظير كتاباته الكثيرة، حاله في ذلك حال الكثيرين من جيله بمن فيهم جاك خزمو مؤسس البيادر الأدبي قبل أن يحولها برفقة زوجته "ندى خزمو" إلى البيادر السياسي مطلع الثمانينات لتصدر من شقة صغيرة في القدس العتيقة، لم يحظ صديقي بلقب المحلل السياسي رغم أن شهادته الأكاديمية وخبرته تؤهلانه لها دون الإستعانة بصديق ودون أن يفعل ما يفعله الكثير لإمتطاء صهوة اللقب.
لا أعرف إن كان صديقي يقصد بأنه شاري دماغه أنه إمتلكها وشيد حولها سوراً واقياً كي يريحها من أفكار مشوهة تسعى للإنقضاض عليها، أم انه شرى دماغه بمعنى باعها كما تقول لغتنا العربية، لكن على أي حال فهناك عملية بيع أو شراء، فكيف يشتري المرء شيئاً يملكه وكيف يبيع شيئاً لا يتحكم به؟، وهل بإستطاعة المرء أن يتم صفقة يكون فيها البائع والشاري على نمط التوكيل الذي يخول صاحبه البيع للنفس أو للغير؟, وهل تكفل لنا العملية التحكم بمدخلات ومخرجات الدماغ؟، وهل إمتلاكنا للدماغ وإستحواذنا عليه يضمن لنا التحكم بالعقل؟، وهل حسمنا الجدل بأن عمليات العقل تتم في الدماغ وليست في القلب؟ وأن الإرتباط بين العقل والقلب ليس سوى إرتباطاً مجازياً لا فعلياً؟, والأهم من ذلك هل بإستطاعة المرء أن يروض دماغه ويحكم السيطرة على أكثر من مائة مليار خلية عصبية ويتلاعب بها كما يفعل محرك الدمى في الماريونيت؟، وهل البيع والشراء للدماغ تجارة رائجة في هذا الزمان أم هي مجرد عملية تسويقية لبضاعة كاسدة تتعلق بتقبل الواقع بكل ما فيه ما فيه من عوار؟.

نعم أتعبنا الواقع حين تقدم الفصيل على الوطن، وإختلط فيه الحابل بالنابل, وإختفت فيه المساحة الفاصلة بين العمل الوطني والغير الوطني، ومجدنا فيه الفرد وشيعنا المؤسسة إلى مثواها الأخير دون أن نذرف عليها دمعة واحدة ودون أن نقيم لها سرادق عزاء، أوجعنا الواقع حين غرس أنيابه فينا ومزق لحمنا وتركنا فريسة سهلة تتداعى عليها الأكلة كما تتداعي إلى قصعتها، رغم ذلك لا يمكن لنا أن نقبل بتعاطي وصفة جاؤوا بأعشابها من حقل الهزيمة والإستسلام والقبول بالواقع، وليس من العقل في شيء أن ندمن عليها وهي مجرد جرعات يأس، ولا يمكن لنا أن نقبل بموبقات واقع لا يتقبلها عقل أو منطق، ولن نصفق لبطولات زائفة ونصدق وعود كاذبة، ولن نجعل من الإخفاقات منجزات نباهي بها بين الأمم، لن نقدم على شيء من ذلك لأن ببساطة عقولنا ليست للبيع أو الإيجار وسياسة شاري دماغه بضاعة فاسدة