ولدت الديانة اليهودية في الأراضي المقدسة مهد الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام. وبينما ترتبط الديانة المسيحية بالعهد القديم (التوراة) وترى أنها تُشكل امتدادا ً لها، فإن الإسلام يشترط على كل مسلم أن يؤمن بالله وكتبه ورُسُله، أي أن الإسلام يعترف بما سبقه من ديانات خلافا لليهودية التي لا تعترف بالديانتين الأخريين المسيحية والإسلام. وفي جميع الأحوال فإن اليهودية بالنسبة لنا هي أحد الأديان السماوية، ومن غير المفهوم النظر اليها كعرق أو قومية.
ومع أن الحركة الصهيونية قامت على أساس الدمج بين الديانة اليهودية ومفهوم أن اليهود هم قومية، وقدمت نفسها على أنها حركة تحرر وطني لليهود، إلا أن الحركة الصهيونية لم تولد من رحم مهد الديانات ولم تنجح في كسب تأييد اليهود في شتى أنحاء المعمورة بدليل أن الأغلبية العظمى من يهود العالم لم تنخرط بالحركة الصهيونية ولم تتبن أيديولوجية العودة الى أرض الميعاد واكتفت في جزء كبير منها بالدعم العاطفي أو المالي لإسرائيل. وهناك جماعات يهودية متدينة مثل ناطوري كارتا لا تعترف بدولة إسرائيل وتعتبر قيامها اعتداء على إرادة الرب لأنه لا يجوز أن تقول لليهود دولة إلا بعد مجيء المسيح وإقامة الدولة اليهودية على يده.
وعلى أية حال فإن الحركة الصهيونية لم تولد، كما أسلفت، في الأراضي المقدسة وإنما في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية وهي المناطق التي نشأت وازهرت فيها الحركة اللاسامية. ولا شك بأن لللاسامية دور رئيسي في ولادة الحركة الصهيونية التي ولدت بدافع التخلص من اللاسامية من جهة، واستوحت فكرتها من النجاحات التي حققتها الحركة الاستعمارية الأوروبية في أقطار العالم وكانت مصدر إلهام للآباء الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر.
الصهيونية غريبة عن مهد الديانات الثلاث
والحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع هي أن يهود أوروبا الشرقية والوسطى لا توجد لهم صلة عرقية بيهود أراضي المشرق وإنما هم في غالبيتهم من مملكة الخزر والتي كان شعبها خليطا من الاتراك والفنلنديين والمغولان (أشباه المغول) وفي نهاية القرن الميلادي الثامن تحول ملك الخزر ونبلاؤه وعدد كبير من شعبه من الوثنية الى الديانة اليهودية ومع الوقت وحتى حوالي القرن التاسع أصبح جميع سكان مملكة الخزر من اليهود. ويعتقد العديد من المؤرخين أن ما لا يقل عن 92% من جميع يهود العالم يتحدرون من السلالة الخزرجية تاريخيا ولا صلة لهم بيهود المشرق.
ما أود أن أقوله هو أن يهود أوروبا الشرقية والوسطى الذين أنتجوا الحركة الصهيونية لا صلة عرقية لهم بيهود الأراضي المقدسة وإنما ألبسوا حركتهم ثوبا ً دينيا وامتطوا صهوة الدين لتحقيق أهداف سياسية وهي الاستيلاء على أرض فلسطين وإقامة دولة كولونيالية فوق ترابها بحجة أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ولا شك بأن الأوروبيين الشرقيين وبدوافع لاسامية وعنصرية قد رحبوا بولادة هذه الحركة ودعموها ليتخلصوا من اليهود ويطردوهم من بلادهم الى الدولة اليهودية القادمة على الطريق. وهنا التقت مصلحة اليهود في الهروب من ظلم اللاسامية مع مصلحة اللاساميين الذين أرادوا التخلص من اليهود.
ولا شك بأن آباء الحركة الصهيونية قد نجحوا نجاحا ً باهرا ً في حشد أعداد ضخمة من اليهود وخلق الروح الجماعية بينهم وربطهم بمفهوم أن اليهودية هي قومية وأن ليس على كل يهودي أن يكون متدينا ً وأن بالإمكان أن يكون المرء يهوديا ً علمانيا أو حتى ملحداً طالما أنه مولود من أم يهودية.
وبالرغم من أن الحركة الصهيونية ركبت موجة الدين لتبرر المطالبة ب "أرض الميعاد" وادعت لنفسها اسم حركة تحرر وطني إلا أن المفتاح بقي في يد المتدينين إذ أن التحول لليهودية لا يمكن أن يتم من خلال مؤسسات مدنية أو علمانية وإنما من خلال اعتناق الديانة اليهودية على يد مرجعية دينية، ودخول عملية تهويد متشددة يخضع فيها من يريد اعتناق اليهودية الى عملية غسل دماغ دينية تصل في نهايتها الى تطهيره من "رجس الأغيار"، - غير اليهود-، ووسمه بالدين اليهودي. والطريف بعد ذلك أنه وبعد أن تتم عملية التهويد على يد الحاخامية الدينية المتشددة يستطيع المرء وبعد أن يكتسب صفة يهودي أن يصبح علمانيا ً أو ملحدا ويظل يحمل لقب يهودي ويصبح من شعب الله المختار وله الحق في أرض الميعاد بغض النظر عن مِن أي مكان في العالم جاء أو من أية خلفية عرقية أو دينيه أتى..
ولقد نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق برنامجها الاستيطاني الكولونيالي في جزء من أرض فلسطين عام 1948 ثم استطاعت استكمال استيلائها على كل فلسطين الانتدابية من النهر الى البحر.
الانقلاب الديني ضد العلمانية الصهيونية
ومع أن الحركة الصهيونية قامت في أساسها كحركة علمانية تسعى الى إقامة دولة يهودية علمانية ديمقراطية إلا أنها لم تستطع فرض هذا النمط من التفكير على كافة اليهود الذين انضموا تحت لوائها وخاصة بعد أن بدأ اليهود الأوروبيون القادمون من أوربا استقطاب يهود العلم العربي وشمال أفريقيا ومناطق أخرى من العالم للاستفادة من الأيدي العاملة رغم اختلاف الثقافات والمفاهيم والعادات الاجتماعية مما خلق حالة من النفور والشعور بالظلم الاجتماعي والاضطهاد الفوقي ضد يهود المشرق.
ولكن حرب عام 1967 وتدفق عرب الأراضي المحتلة الى سوق العمل بإسرائيل خفف الضغط عن اليهود الشرقيين بل ورفعهم درجة فوق العرب وأصبحوا هم يعكسون العنصرية والتمييز الطبقي التي عانوا منها على يد الأشكنازية في الماضي ، على العرب الذين أصبحوا يلونهم في الدرجة.
هذا التحول الاجتماعي الذي ساهم احتلال عام 1967 في خلقه داخل المجتمع الإسرائيلي سرعان ما كانت له نتائج سياسية على الساحة الإسرائيلية تمثلت في ازدياد تأثير اليهود الشرقيين في الحياة السياسية وبلغ ذلك ذروته في الانقلاب اليميني الذي حدث عام 1977 بقيادة مناحيم بيجن البولندي الذي ألهب مشاعر اليهود الشرقيين واحتضنهم في تكتل أحزاب اليمين الذي عُرف فيما بعد بالليكود وأصبحت بإسرائيل ولأول مرة حكومة يمينية تزعمها مناحيم بيجن وأتاح فيها لبعض قيادات اليهود الشرقيين بالظهور أمثال دافيد ليفي.
والى جانب هذا التحول السياسي في إسرائيل وهيمنة اليمين الوطني على الحكم منذ أواخر السبعينيات فقد كان هناك نمو مضطرد في تأثير الأحزاب الدينية وانفكاك تدريجي بينها وبين اليهود "الليبراليين" وأقصد العمل ومابام وما نتج عنهما من مسميات حزبية لاحقة. وأصبح لليمين الوطني (القومي) واليمين الديني تأثير متزايد في البرامج المدرسية وبرامج المدارس الدينية. فقد كان معظم وزراء التربية والتعليم من غلاة الليكود، كما ازدادت الميزانيات المخصصة للأطر الدينية المعروفة باسم "يشيفة" وهكذا دخلت إسرائيل في مرحلة من التدين والتطرف الديني. ولا شك بأن فشل العملية السياسية مع الفلسطينيين في عام 2000/2001 واندلاع الانتفاضة الثانية وما رافقها من عمليات مسلحة وتفجيرات، وترويج لمقولة لا يوجد شريك فلسطيني، قد أسهمت هي الأخرى الى حد كبير في تعزيز التطرف الإسرائيلي اليميني والديني والعنصرية ضد العرب.
الانقلابات المتتالية في الساحة الاسرائيلية
لقد شهدت إسرائيل خلال ال 75 سنة الماضية ومنذ قيامها عام 1948 سلسلة من التحولات كان أبرزها الانقلاب السياسي اليميني عام 1977. ثم تلا ذلك تحول آخر أقل دراماتيكية وهو في عام 2006 حينما قاد بنيامين نتنياهو انقلابا ً أكثر يمينية ضد أريك شارون واضطره للخروج من بيته الليكود وتشكيل حزب جديد لم يُعمر كثيرا وهو حزب كديمة.
واليوم في عام 2023 تشهد إسرائيل الانقلاب الأخطر في تاريخها وفي تاريخ الحركة الصهيونية. فبعد أن ظن الصهاينة الأوائل أن بإمكانهم ركوب صهوة الدين واستغلاله للادعاء بما أسموه الحق التاريخي لليهود في أرض الميعاد، نجد اليوم أن اليهود المتدينين يقودون انقلابا ً ضد اليهود العلمانيين الذين أقاموا إسرائيل كدولة ديمقراطية علمانية. والمعركة التي نشهدها اليوم من خلال ما يسمى بالإصلاح القانوني ليست سوى بداية لوضع الأسس للدولة الدينية المشيخية التي لا تؤمن بالقوانين الوضعية ولا تعترف بما يسمى بالديمقراطية وتعتبر أن الولاية القانونية العليا هي قوانين التوراة.
ولا شك بأن نجاح هذه "الإصلاحات" المزعومة سيشكل بداية نهاية الصهيونية العلمانية ومأسسة دولة الشريعة اليهودية. ومثل هذه الدولة شأنها شأن كل الأنظمة الثيوقراطية التي ظهرت واندثرت بسرعة، وبعضها مؤخرا ً في عالمنا العربي، لا تعترف بالتعددية ولا تؤمن بالمشاركة وتقوم على أساسي الاقصاء والاستحواذ على الحكم. والغريب هو أن العالم الغربي المنافق والذي حارب ويحارب الحركات الإسلامية بمختلف مسمياتها ويصفها بالإرهاب والظلامية لا ينبس ببنت شفة ضد مثيلتها اليهودية.
إن نجاح هذه الظاهرة الجديدة في إسرائيل سيعني أن اليهود العلمانيين والذين يؤمنون بالديمقراطية حتى لو كانت لليهود فقط، سيجدون أنفسهم عاجلا ً أو آجلا ً إما مضطرون للهروب من الاضطهاد الديني اليهودي المتطرف وإما للوقوف جنبا ً الى جنب مع العرب والقتال ضد هذا الجنون القادم، ومع هشاشة هذا الافتراض إلا أنه يستحق الأخذ بعين الاعتبار من قبل الطرفين.