حاول البعض تفسير العلاقة المتينة بين واشنطن وتل أبيب استنادا إلى مفهوم المصلحة القومية، نظرا لكون إسرائيل تمارس دورا داعما لمصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. وغير خفي أن هذا التقارب يعود إلى قوة اللوبي الموالي لإسرائيل في الداخل الأمريكي، لذلك مضى نتنياهو إلى التحالف مع المتطرفين والفاشيين، حتى إن كانت هناك تكاليف سياسية، لعلّه يعتقد أنّه سوف تطمسها الضمانات الأمريكية المطلقة تجاه إسرائيل، وعمادها الاستراتيجية التفاعلية القائمة على فكرة المصالح المشتركة في المقام الأول. وهذا السند ذاته هو ما يجعل رئيس حكومة الاحتلال يتجاهل الاحتجاجات التي ترفض خطواته لإضعاف القضاء، وتقليص سلطة محكمة العدل العليا، من أجل الهروب من الإدانة بتهم الفساد المتعددة التي يحاكم بشأنها، فقط لا غير.
الفاشية على النمط الإسرائيلي» كما عبّر عنها الكاتب ملفين غودمان، تتجلّى في أوضح تمظهراتها، من خلال عمليات هدم البيوت الفلسطينية كإجراء قمعي في محاولة من الحكومة الإسرائيلية لطرد الفلسطينيين من أراضيهم. ولم تكن أي حكومة إسرائيلية مستعدة في السنوات الأخيرة لوقف العنف ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ولم تفعل أي حكومة أمريكية في السنوات الأخيرة أيضا أي شيء للضغط على الإسرائيليين. في غضون ذلك، يتلقى الإسرائيليون مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة أكثر من أي حكومة أخرى غير أوكرانيا في الوقت الحالي على الأقل. ومن الطبيعي حينها أن تغلق إسرائيل باب التفاوض وعمليات السلام، وأن يبقى الموقف الأمريكي يتستر على الممارسات الإسرائيلية، من دون أدنى إشارة، ولو كاذبة إلى إيقاف مخططات حكومة الاحتلال بالنسبة للمستوطنات. واشنطن تعطي مليارات الدولارات لإسرائيل، وتحميها أمنيا واستراتيجيا، وعلى جميع الأصعدة. وفي هذا السياق يأتي تأكيد وزير الدفاع الأمريكي أوستن خلال لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، عن متانة الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين، حين أعرب عن رغبة واشنطن في تعميقها، وعلى التزام بلاده الصارم بأمن إسرائيل وتفوقها العسكري النوعي.
لا خيار أمام الفلسطينيين سوى توحيد الصف الوطني ودعم جبهات المقاومة، فهي المسار الوحيد لنيل الاستقلال
خطة الإصلاح القضائي التي تتواصل بسببها التظاهرات للأسبوع العاشر على التوالي، تتضمن تعديلات تحد من سلطات المحكمة العليا، وهي أعلى سلطة قضائية، وتمنح الحكومة سيطرة على تعيين القضاة، مقابل هذا الوضع السياسي المتأزم والاحتقان الاجتماعي، يردّد نتنياهو أنّ المظاهرات تهدف للإطاحة به، وأن «الإصلاحات» مصممة لوضع حدّ لتدخل المحكمة العليا في السياسة، وهو الذي يقود حكومة فاشية، والأكثر يمينية وتطرفا في تاريخ كيان الاحتلال، يحاكم في قضايا فساد، وينفي ارتكاب أي مخالفات بشأنها. هناك مشكلة توازن بين الكنيست والحكومة والمنظومة القضائية في إسرائيل. والاحتجاجات في إسرائيل ليست من أجل الفلسطينيين، لكنها تخص الشأن الداخلي الإسرائيلي. وحتى لو سقطت حكومة نتنياهو، فالبديل أيضا لن يعطى الفلسطينيين حقوقهم كما قال أمين عام حركة المبادرة الفلسطينية مصطفى البرغوثي. والمحللون الإسرائيليون أمثال أنشيل بيففر وناحوم برنياع وغيرهم، أشاروا بدورهم إلى أنّ العلاقة بين بنيامين نتنياهو واليهود الأمريكيين الليبراليين كانت متوترة في كثير من الأحيان، لكنّه لم يسعَ قط إلى قطع العلاقات، ومع ذلك، فإنّ شركاءه في التحالف لديهم أفكار أخرى، وقد يكون عاجزا عن إيقافهم، وقد تكون نتائج الانتخابات، ومن ثم طبيعة الائتلاف الذي شكّله نتنياهو، وما نراه اليوم من تصعيد لسياسات التطرف والعنصرية، بداية تحوّل سيغير وجه دولة الاحتلال. والقصة لم تعد متعلقة بنتنياهو، فهذا التحول أقوى منه، «لقد بزغ عهدٌ آخر، مُعادٍ لليبرالية، حريدي، قومي، هدّام». ومثل هذا التحالف بقيادة نتنياهو سيفكك إسرائيل وجميع مؤسساتها، والعالم لن يعترف بها كما كان منذ 74 عاما، حتى إن الرئيس يتسحاق هرتسوغ طالب الولايات المتحدة خلال زيارته الأخيرة لها بعدم التخلي عن إسرائيل إذا وصل مثل هذا التحالف للسلطة. سلوك نظام الاحتلال الإسرائيلي، الشر الخالص، الشر السادي، الشر من أجل الشر، وأحيانا يكون هذا هو التفسير الوحيد بتوصيف المفكر الإسرائيلي جدعون ليفي. ويجادل أيضا البروفيسور أمنون راز بأن مصطلح «الفاشية»، ليس المصطلح الصحيح لوصف إسرائيل، فدولة عنصرية ودولة نظام أبارتهايد، والعديد من المصطلحات الأخرى، من الممكن أن تفي بالغرض أكثر من مصطلح فاشية، فما يحصل اليوم، هو أن «الدولة لم تعد تخفي كونها دولة الشعب اليهودي فقط، بالإضافة إلى أنها لم تعد تظهر أي اهتمام بأن تكون، أو تبدو كدولة ديمقراطية». فإسرائيل ليست دولة ديمقراطية بشكل قاطع، هي دولة إثنوقراطية، فاليهود يحتكرون الحقوق كافة التي من المفروض أن تتوفر للجميع. والوضع الذي نعيشه اليوم يعد أصعب من نظام فاشي، وفي حال السؤال عما إذا كانت إسرائيل تتحوّل إلى دولة فاشية، يفضّل راز، أن يكون السؤال: هل من الممكن أن لا تكون إسرائيل دولة فاشية؟ ذلك أنّ الأمر لا يقتصر على الدولة، فالمجتمع الإسرائيلي كذلك، أصبح فاشيا. و»السؤال كيف من الممكن أن نخرجه من وحل العنصرية المطلقة التي أصبح يحيا فيها».
هذا الانزياح في تحول الليكود نحو اليمين الشعبوي وصعود قوة الصهيونية الدينية الاستيطانية، وتفريخها لتيار الحردلية، أصبح واضحا، ويتجلّى عمليا في الممارسات اليومية، وفي سلوك المستوطنين. النبرة الناقدة والصريحة بضرورة إعادة النظر في العلاقات الثنائية الخاصّة بين الولايات المتحدّة وإسرائيل، التي عبر عنها تشومسكي وستيفن وولت وميرشايمر وغيرهم، لا تلقى اهتماما لدى صناع السياسة في أمريكا، من الذين تقودهم لوبيات المجامع العسكرية، إذ تُنفق واشنطن لأجل هذه العلاقة التي يزدريها كثيرون ميزانية كبيرة جدا، وكذلك رصيدا سياسيا، استراتيجيا وأخلاقيا لا علاقة له بمصالحها الحيوية حول العالم. وقد سمح الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل لفترة طويلة الآن بمتابعة سياسات كانت لها نتائج عكسية على نحو متكرّر. كما وضعت مستقبلها موضع شكّ أعظم على المدى البعيد. يأتي على رأس هذه السياسات المشروع الاستيطاني نفسه، والرغبة غير الخفيّة إطلاقا في خلق «إسرائيل الكبرى» التّي تشمل الضفّة الغربية، وتحصر الفلسطينيّين في أرخبيل من الجيوب المعزولة عن بعضها بعضا. في حين كان بالإمكان لعلاقة عاديّة أن تفيد إسرائيل أكثر، وأن لا تجد الولايات المتحدّة نفسها متورّطة في كل مرّة في أزمة من صنيعها، في حين أنها ليست مُجبرة على أن تُقدّم دعما لا مشروطا لإسرائيل حتّى تجني الكراهية والحقد.
تحقيق السلام لا يتم إلا بتجسيد طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة. ولا خيار أمام الفلسطينيين سوى توحيد الصف الوطني ودعم جبهات المقاومة، فهي المسار الوحيد لنيل الاستقلال. ولا يمكن فرض أهداف سياسية أو وطنية على الأرض إلّا عن طريق المقاومة بأشكالها كافة. فهي بطريقة ما إبداع انتفاضي لاسترداد الحق المسلوب خاصة مع تعاظم الفاشية والتطرف لدى المحتل.
كاتب تونسي