فيما الأنظار كانت تتجه صوب بغداد، بانتظار الجولة السادسة للحوار السعودي - الإيراني، جاءت المفاجأة الكبرى من بكين وإعلانها الثلاثي، لتكشف عن وساطة صينية خارجة عن المألوف، واتفاق بين الرياض وطهران على استئناف علاقاتهما الدبلوماسية على مستوى السفراء (وفتح السفارات والقنصليات) في غضون شهرين اثنين، وبمواكبة (حتى لا نقول ضمانات) صينية، ولقاء على مستوى وزيري خارجية البلدين لهذه الغاية، وتفعيل الاتفاق الأمني الثنائي.. كل ذلك في إطار احترام حسن الجوار وعدم التدخل واحترام سيادة الدول، وغير ذلك مما ينص عليه القانون الدولي.
المفاجأة هنا مركبة.. «المصالحة» جاءت بأسرع مما كنا وكان أغلب المراقبين يظنون، و»الوساطة» جاءت محمّلة بالدلالات، إذ في خضم الصراع المحتدم بين واشنطن وبكين، تسجل الأخيرة هدفاً في مرمى الأولى، وتقدم نفسها كوسيط بين أقوى حليف عربي لواشنطن وأكثر قوة إقليمية مناهضة لها.. المصالحة تطور مفاجئ، لكن المفاجأة الأكبر كانت في الوساطة والوسيط.
هو تطور نوعي بامتياز، ويمكن عدّه بمثابة عامل تغيير لقواعد العلاقات وديناميات القوة في الإقليم برمته «Game Changer»، وما موجة ردود الأفعال المرحبة والمتفائلة، سوى شهادة على أهمية هذا التطور، إذ لولا حالة الاستياء التي سادت الوسط السياسي الإسرائيلي، ولولا الترحيب المتحفظ والمشروط الذي صدر عن واشنطن، لأمكن القول إن ثمة إجماعا إقليميا ودوليا، رسميا وغير حكومي، على النظر لهذه الخطوة بعين الارتياح والتفاؤل.
السعودية وإيران مشتبكتان في عدة ملفات وساحات، والأزمة التي باعدت بين البلدين، سابقة للعام 2016، عندما أغلقت السفارات والقنصليات وجرى سحب متبادل لدبلوماسيي البلدين.. يمكن القول بقليل من التردد، إن جذور التأزم في العلاقات الثنائية عائدة لليوم الأول لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما الانفراجات المؤقتة التي كانت تطرأ عليها من حين لآخر، سوى «هدن» بين جولات متعاقبة من التصارع والتنازع، وثمة أسباب عدة لذلك، لا مجال في هذه العجالة لبحثها واستعراضها.
يعني ذلك من ضمن ما يعني، أن مشوار استعادة العلاقات بين الجانبين وتطبيعها، ما زال طويلاً وشاقاً إلى حد كبير، برغم النوايا الحسنة المتبادلة، التي عبّرت عنها تصريحات المسؤولين على ضفتي الخليج، فالإرث المتراكم من الخلافات وانعدام الثقة المتبادل وتباين المصالح، وربما تناقضها، يصعب أن يمحوها اجتماع واحد، حتى وإن كان ماراثونياً كما في اجتماع بكين، أو سلسلة لقاءات لاحقة تعيد وصل ما انقطع.
وإن كان منطقياً التنبؤ بأثر إيجابي لإعلان بكين على الأزمات المفتوحة في المنطقة، من اليمن إلى لبنان، مروراً بسورية والعراق، إلا أنه من غير المنطقي الاستنتاج بأن ذلك سيحصل قريباً وتلقائياً، فثمة لاعبون آخرون لديهم حساباتهم ومصالحهم، وثمة أطراف محلية، بنت لنفسها منظومة من المصالح على جذع الانقسام الإقليمي، تبدو بحاجة للتفكيك وإعادة التركيب، وتلك مهمة ليست باليسيرة في أقل تقدير.. لكن الجديد بعد «إعلان بكين»، أن الفرصة باتت متاحة لجلوس قطبين كبيرين حول مائدة حوار للتباحث في سبل اجتراح الحلول، بعيداً عن لعبة «الخيار الصفري»، وربما على قاعدة «رابح – رابح».
ما بعد إعلان بكين ليس كما سبقه، فالبلدان على ما يبدو، قررا وضع خلافاتهما وتناقضاتهما، على سكة الاحتواء والسيطرة، بالحوار والدبلوماسية، بعد أن تبين لهما، ولكل دول المنطقة ولاعبيها الرئيسين، أن الحرب ليست خياراً، وأن كلفة الحسم المتعذر أعلى بكثير من كلف الحلول الصعبة، وأن لدى دول المنطقة ومجتمعاتها، أولويات وتحديات في المال والأعمال والاقتصاد والغذاء والدواء، لم تعد تحتمل المزيد من الحروب المباشرة أو حروب الوكالة، وأن الإقليم يتغير، وتتغير معه ملامح وقواعد النظام الدولي برمته.
نحن أمام «خليج جديد»، و»سعودية ثانية»، و»نظام عالمي قيد التشكل»، وما كان يصح قبلها، لم يعد يصح بعدها، فمن منّا كان ينتظر أن «يطلب المتخاصمون الصلح ولو في الصين».. ومن منّا كان ينتظر أن تقف الولايات المتحدة متفرجة على تطور نوعي كهذا، لا تجد حياله سوى القول، إننا كنّا على علم بما يجري، وإننا نشجع كل ما من شأنه إشاعة الاستقرار، وإننا ننتظر من إيران أن تُتبع أقوالها بالأفعال؟