في مشهد الحكم والسياسة: الرئيس أنور إبراهيم كما عرفته

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم:د. أحمد يوسف

 

كانت بداية معرفتي بالرئيس الماليزي الحالي أنور إبراهيم عندما كان ناشطاً إسلامياً في حركة الشباب (إبيم)، إذ كنت قد سمعت باسمه أول مرة من بعض الأصدقاء الذين تعرفت عليهم أواخر السبعينيات خلال دراستنا بجامعة الأزهر المصرية.
وعندما سافرت إلى أمريكا لاستكمال دراستي العليا، كانت تجمعنا بالطلاب الماليزيين المؤتمرات السنوية، حيث يتمَّ التعارف وتدارس الأنشطة الدعوية على الساحة الأمريكية.
لقد سمعت الكثير من هؤلاء الطلاب عن أنور إبراهيم؛ باعتباره أحد طلائع قيادات (إبيم)، وقد حدثني صديق ينتسب إلى هذه الحركة تشاركنا معاً سنوات الدراسة في الجامعة الكثير عنه، ثم كانت فرصة التعارف الأوسع من خلال أنشطة المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT) بالعاصمة الأمريكية واشنطن، إذ كان د. أنور إبراهيم أحد المؤسسين لهذا المعهد، ومن رواد المشروع الفكري العالمي للتعريف بالإسلام ورسالته العالمية واستنهاض الحركة الإسلامية في الغرب من خلال ما اطلق عليه اسم "إسلامية المعرفة".
كان د. أنور إبراهيم من بين هؤلاء الرواد الأوائل الذين عرفناهم في أمريكا، وكانوا طليعة جيل الرواحل ممن "سبقوا زمانهم"، وتركوا خلفهم لأمثالنا أكثر من بصمة وأثر.
كانت المرة الأخيرة التي التقيته في أمريكا منتصف التسعينيات، عندما ذهبنا للسلام عليه بعد زيارة رسمية له لواشنطن، وكان حينها نائباً لرئيس الوزراء مهاتير محمد ووزيراً للمالية.
كان د. أنور إبراهيم قيادي إسلامي بامتياز، وقد سبق له العمل بجامعة جورج تاون إلى جانب المستشرق الأمريكي بروفيسور جون إسبوسيتو؛ رئيس مركز التفاهم الإسلامي المسيحي (ICUC)، والذي نشر الكثير من الكتب التي أنصفت الإسلام، ودافعت بإنصاف عن الحركات الإسلامية ذات التوجهات السياسية في العالم العربي.
كان التحالف بين مهاتير محمد وأنور إبراهيم عام 1982 هو المدخل للاستقرار السياسي والأمني، والتأسيس لقيام نهضة علمية وعمرانية لماليزيا، حيث تمكن الاثنان من بعث الحياة في الغالبية المعدمة من السكان الأصليين من شعب الملايو، إذ قاما بابتعاث عشرات الآلاف من أبنائهم للدراسة في الجامعات الغربية، وتصدر حركة النهضة العلمية في المجالات المعرفية والتكنولوجية، التي وضعت ماليزيا كواحدة من بين أهم الدول التي أخذت مكانتها بين النمور الآسيوية في المجال الاقتصادي خلال تسعينيات القرن الماضي.
في عام 1998، حدثت الأزمة المالية التي هزَّت الاقتصاد الآسيوي، والتي تباينت فيها وجهات النظر في كيفية التعامل معها بين مهاتير ونائبه ووزير ماليته أنور إبراهيم.
لم يكن أحد منَّا ممن عرفنا كلا الرجلين يتوقع أن تصل أمور الخلاف بينهما إلى حدِّ قيام جماعة مهاتير بالفجور في الخصومة، لدرجة اتهام أنور إبراهيم في أخلاقه!! لقد كان من الواضح أنَّ الهدف من وراء ذلك وهو اغتيال الرجل سياسياً وإنسانياً وتحطيم شخصيته كزعيم إسلامي، وتشويه كلّ ما عهدناه عليه من أدبيات السلوك والتواضع والخلق الحسن، حيث كان في أخلاقه آية.
في الحقيقة، فقد الرئيس مهاتير بهذا السلوك الذي قام به لشيطنة أنور إبراهيم احترامه ومكانته بين القيادات والأوساط الإسلامية في الشرق والغرب، وانصرف التعاطف كليَّة لصالح أنور إبراهيم، وبدأت الكتابات المدافعة عنه وسط الإسلاميين المقيمين في الدول الغربية ممن عرفوا الرجل، وخبروا فكره وأخلاقياته العالية خلال سنوات إقامته بينهم أو مشاركته لهم في مؤتمراتهم ومنتدياتهم الإسلامية.
ونظراً لحجم الظلم الذي وقع على الرجل وخسّة الطعنة التي تعرض لها من مهاتير وجماعته، لم انتظر طويلاً إذ عقدت العزم بالدفاع عنه والذود عن حياضه، إذ باشرت بجمع المادة الخاصة بمسيرته الذاتية والحركية والعلمية، وعقدت جلسات حوار مع بعض من تتلمذوا على يديه داخل الحركة الطلابية (MISG) ممن تواجدوا بيننا في أمريكا لمعرفة أسباب وبواعث الخلاف الذي جرى بين رائدي النهضة الماليزية وزعمائها الكبار.
لقد وجدت من شجَّعني للكتابة عن سيرة الرجل ومساره في دعم الحركة الإسلامية العالمية وبناء ماليزيا الحديثة، وفضح دوافع الجهات التي تقف وراء محاولة اغتيال الرجل سياسياً وأخلاقياً، بعد أكثر من ثلاثين عاماً لم يعرف الماليزيون عنه -ونحن كذلك كإسلاميين- إلا كلّ النبل والخلق الكريم، والتفاني من أجل قضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين.
أنجزت الكتاب الموسوم (د. أنور إبراهيم.. رجل النهضة)، باللغة الإنجليزية في 120 صفحة، وتمَّ توزيعه في أمريكا والعديد من الدول الغربية والآسيوية، حيث يتواجد الكثير من أنصار أنور إبراهيم.
إنَّ أكثر ما شدني في هذا الكتاب اليوم، واستدعى ذكره هو تلك السطور التي جاءت في مقدمة الكتاب -آنذاك- على شكل نبوءة، وقد تحققت بعد ربع قرن في سردية هي أشبه بالمعجزة. وقد جاءت تلك النبوءة على الشكل التالي:
"إن رجلاً كأنور إبراهيم بما هو عليه من أخلاق سامية وقيم إسلامية عالية، وما قدَّمه من تضحيات لخدمة بلاده وهذا الدين، لن تمنح هؤلاء الفاسدين انتصاراً بهذه الاتهامات والمزاعم الباطلة، فالله (سبحانه وتعالي) سينتصر لمظلومية عبده، وسيعود أنور إبراهيم إلى سدّة الحكم مرفوع الرأس بعد عقد أو عقدين، وما ذلك على الله ببعيد".
وتشاء الأقدار بعد ربع قرن قضاها أنور إبراهيم في السجون والملاحقات القضائية وحملات تشويه السمعة، أن يعود للحياة السياسية وأن نتحدث معه بعد إطلاق سراحه عام 2018، واليوم هو رئيس الوزراء المنتخب، الذي تمَّت تبرئته من كلِّ ما نُسب إليه من اتهامات، وأن ينتهي الأمر بالكثير ممن تآمروا عليه بالسجن، جراء الفساد والاختلاسات المالية أو بخسارة الانتخابات بشكل مهين كما حدث مع مهاتير.
لم يبقَ شيئاً إلا لفقوه له ليلقوا به في غيابت الجب، وينهوا مستقبله السياسي، إلا أنَّ الرجل (القوي الأمين) كما عرفناه، عاد ليقول لملك البلاد: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. اليوم بدأ أنور إبراهيم أولى خطواته الإصلاحية بتوجيه ضربة قوية لمن نهبوا البلاد وأكثروا فيها الفساد، بفتح تحقيقات قضائية لاسترداد الكثير من تلك الثروات المنهوبة، والتي تمثل بعضاً من مرتكزات ماليزيا وقوتها الاقتصادية كأحد أهم النمور الآسيوية.
يعود أنور إبراهيم مجدّدا للسلطة، ولكن هذه المرّة كمنقذٍ لماليزيا ونهضتها، يعود منتصراً ليس سياسياً فحسب، وإنما أخلاقياً وإنسانياً أيضاً.
يعود اليوم أنور إبراهيم كزعيم لإثبات أهليته وجدارة اسمه في سجل الخالدين، كيف لا وهو القائل: لقد تربيت على مثلٍ قالوه أجدادي: "ميراث النمر جلده، وميراث الرجل ذكر اسمه".
إن إنسانا مهذباً وبهذا التواضع والخلق العظيم والالتزام الإسلامي تجاه قضايا أمته، وخاصة قضية فلسطين التي يضعها -كما عرفناه- على رأس أولوياته، وأنه من أول مناصريها عالمياً.. إنَّ إنساناً بهذه الصفات والأمانة لن يخذله الله، وسيجري على يديه من الإنجازات ما لم يحققه غيره من قادة الأمة الإسلامية، ولعل نبوءتي الجديدة لهذا الزعيم أن نهضة ماليزيا الثانية سوف تتحقق قبل أن تُبلّغنا عقارب الساعة أنَّ العشرية الأولى له كرئيس في مشهد الحكم والسياسة قد اكتملت سنواتها.