عن هوس إسرائيل بالأمن

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 


قد تكمن أهمية اجتماع مجموعة العقبة في شرم الشيخ، الذي عقد، أول من أمس، في كونه يؤكد بأن لقاء العقبة الذي انعقد، الشهر الماضي، لم يكن اجتماعا لمرة واحدة، أو انه جاء عابرا أو تعبيرا عن احتجاج الدول التي شاركت فيه، وهي الأردن، ومصر والولايات المتحدة، هذا إذا اعتبرنا بأن الطرفين الآخرين المشاركين هما طرفا المشكلة الدائمة، كذلك في كونه يجبر إسرائيل على عدم التفرد في معالجة علاقتها مع الجانب الفلسطيني، وكأن فلسطين إنما هي شأن داخلي إسرائيلي بالمعنيين السياسي والأمني، وهذا يعني بأنه وفي ظل ما وصلت إليه إسرائيل من تطرف، وفي ظل انشغال العالم بملفات أخرى، فإن الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين يبقى شأنا مهما للغاية، على الأقل لدول الجوار التي تحيط بإسرائيل.  
وإسرائيل ما زالت لا تدرك بأن كل ما حققته من انتصارات عسكرية ومن فتوحات سياسية، لن يكفيها لتعيش بشكل طبيعي وآمن، دون انسحابها من أرض دولة فلسطين، ودون موافقتها على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فالأردن ومصر، لا تتحركان لمجرد التعاطف مع الحقوق الفلسطينية، وتحركهما هو مهم جدا، لأنهما أولا أول دولتين عقدتا اتفاقات سلام مع إسرائيل منذ عقود، وثانيا بحكم الجيرة، حيث لن يكفي ــ كما أسلفنا ــ أن تقيم إسرائيل علاقات مع كل الدنيا، وهي تقفز عن حقيقة الجغرافيا السياسية، أي دون تحقيق السلام والتوافق مع الجوار، وقد كانت لإسرائيل علاقات دبلوماسية مع نصف الدنيا منذ إعلان قيامها، منتصف القرن الماضي، لكن ذلك لم يمنع عنها الحروب، وكراهية الشرق الأوسط بأسره لها، وهكذا فإن اهتمامها بالتطبيع البعيد، المتجاوز للجيران، ليس الطريق الصائب، لتصبح إسرائيل دولة طبيعية آمنة في المنطقة، هذا فضلا بالطبع عن أن كل اتفاقياتها مع العرب إنما تعقدها مع أنظمة مستبدة غير شعبية، فيما تبقى باحتلالها لفلسطين مكروهة من شعوب المنطقة.  
وليس هذا الكلام تحليلا عابرا أو مجرد وجهة نظر، ذلك أن دول الجوار، وهنا نتحدث عن دولتين عقدتا اتفاقيتي سلام مع إسرائيل منذ عقود، فيما الدولتان الأخريان، أي سورية ولبنان ما زالتا، بل ومن المستبعد جدا، أن تعقدا مع إسرائيل اتفاقيتي سلام في المدى المنظور، فكل دول الجوار، ترى أن لإسرائيل طموحات غير محدودة للنيل من أرضها وأمنها وسيادتها، وفضلا عن الجولان السوري المحتل ومزارع شبعا اللبنانية المحتلة، تقف الأرض الفلسطينية حائط صد بين إسرائيل والأردن ومصر، لذا فإن ضمانة هاتين الدولتين في تجنب الخطر الإسرائيلي الذي يمكن أن يمس أرضيهما وسيادتيهما هو إقامة الفاصل المتمثل بالدولة الفلسطينية، أي أنه حتى اتفاقيات سلام إسرائيل مع مصر والأردن، تعتبر معلقة بإقامة الدولة الفلسطينية، وهذا ما يفسر عدم ذهاب التطبيع الإسرائيلي مع الدولتين العربيتين للمستوى الشعبي.  
أما ما يخص الجانب الأمني، وهنا كان واضحا لدى راعيي هذا المسار الذي يعتبر اختراقا للرفض الإسرائيلي البحث في الشأن الفلسطيني، بأن مناقشة الجانب الأمني، من حيث هو لا يقتصر على الأمن الإسرائيلي فقط، بل يشمل الأمن الفلسطيني أيضا، كانت ضرورية لإجبار إسرائيل على المشاركة في تلك المجموعة، وفي اجتماعاتها المتواصلة، وأن اجتماع شرم الشيخ جاء حتى لا تجعل إسرائيل من قرارات اجتماع العقبة مجرد حبر على ورق، كما سعى لذلك التطرف الإسرائيلي، ممثلا ببتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وبنيامين نتنياهو، ويظل الأمن الإسرائيلي في حقيقة الأمر هاجس إسرائيل الأبدي.
ويقال، إنه في الاجتماعات الضيقة السرية التي سبقت الإعلان عن اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو، والتي عقدت بين الراحلين ياسر عرفات واسحق رابين، قال رابين لعرفات: أعطني الأمن وخذ ما شئت، وهذا يؤكد على أن إسرائيل لا تفكر بشيء أكثر من أمنها، لدرجة الهوس، ولهذا أسبابه المرتبطة بظروف نشأتها كدولة غير طبيعية في منطقة لا تنتمي لها تاريخيا.  
وكمثل الدول الاستعمارية التي بحجة الدفاع عن مصالحها لا تتورع عن شن الحروب خارج حدودها، بل وعلى دول ومناطق تفصل بينها البحار والمحيطات، بحجة الدفاع عن أمنها شنت إسرائيل الحروب على دول الجوار، منذ نشأتها، وما زالت لا تشعر بتوفر الأمن لها، وهي تهدد دولا أخرى تفصل بينهما دول ومئات الكيلومترات ــ مثال هنا العراق سابقا وإيران حاليا ــ وهي لا تجلس أمام ذاتها لحظة لتفكر، لماذا هي مسكونة بهذا الشعور، أليس فعلا لحقيقة كونها غير طبيعية، وأنها أقيمت في الشرق الأوسط كقاعدة استعمارية بالدرجة الأولى، ثم هي ارتكبت المجازر وما زالت لمجرد أنها تخضع دون تفكير لهذا الشعور بانعدام الأمن.  
ولمجرد التعامل مع التخمينات أو التقديرات الأمنية، لا تتورع عن تجاهل الاتفاقيات السياسية، ولمجرد الاعتقاد بوجود خطر أمني ما تداهم المدن والقرى والأحياء الفلسطينية، وتقدم على ارتكاب عمليات القتل دون محاكمة وخارج إطار القانون الدولي، وتلاحق الوهم المتمثل في إمكانية تحقيق الأمن بقوة السلاح وبقدرة الاستخبارات، وفي ظل الاحتلال.
والاحتلال ليس مجرد سيطرة على الأرض والثروات الطبيعية للغير، بل هو قمع متواصل لملايين البشر، يتخلله قتل عشوائي ومستمر، كذلك اعتقالات وتضييق على الحريات الجماعية والشخصية الطبيعية للبشر، وكل هذا يجعل من إسرائيل دولة عنيفة، يضغط جنودها بسهولة على الزناد، ودولة يتحول جنودها إلى قتلة لا يمكن أن تكون دولة طبيعية، تحلم بأمن مستحيل.  
مختصر القول، إن كل الدول الاستعمارية التي سبقت إسرائيل حاولت أن تجعل من استعمارها أمرا طبيعيا، وفشلت، وإسرائيل تحاول منذ أكثر من خمسة عقود، ومن قبلها حاولت أن تكون دولة آمنة بحدود غير محددة، لكنها خاضت حروبا عديدة مع دول الجوار، وما زالت تواجه المحيط كله دون أن تشعر بكونها دولة طبيعية، لأنها ليست كذلك، فالدول الطبيعية ليست دولا تحتل أرض الغير.  
وإسرائيل نفسها سرعان ما تنسى ما كانت حتى هي تفكر أو تؤمن به، فهي قبل عقود كانت تقول بمعادلة الأرض مقابل السلام، أو الأرض مقابل الأمن، لكنها، اليوم، تتراجع عن هذا الموقف، في الوقت الذي تفكر فيه بأنانية مطلقة، حين تريد الأمن لها وحدها دون الآخرين، فالأمن يكون للجميع، وإلا لن يكون، والسارق لا يمكنه أن يشعر بالأمن، ولذا فليس من حقه أن يطالب به، وهو يحتفظ بمسروقاته.  
وكما تحقق لها الأمن على جبهتي مصر والأردن، بعد انسحابها من سيناء ومن بعض المناطق التي كانت تحتلها من الأردن، وعلى قاعدة عدم التفكير في تجاوز حدود تلك الدولتين، ذلك أن إسرائيل على عكس ما كانت تروج، هي التي كانت تبادر للحروب مع الجيران، ومن ثم تحتل أراضيهم، يتحقق لها الأمن بعد أن تنسحب من الأرض الفلسطينية المحتلة، ومن الجولان السوري المحتل، ومن مزارع شبعا اللبنانية المحتلة.  
واحتلال أرض فلسطين بالذات، لا يعتبر أمرا عاديا، فهو ليس مجرد صراع حدودي، بل إن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وإنهاء حصارها لقطاع غزة، يعتبر أمرا وجوديا بالنسبة للشعب الفلسطيني، لأنه دون ذلك يظل يعيش حياة دون الحياة الطبيعية للبشر، وبانسحاب إسرائيل من أرض دولة فلسطين يتحرر الشعب الفلسطيني من عبودية وقهر الاحتلال، ويتحرر الإسرائيليون من سيكولوجيا القتل، ومن شعورهم المستمر بعدم الأمن.  
والعالم كله يدرك هذه الحقيقة، وهو مع القانون الدولي ينظر لاحتلالها أرض دولة فلسطين بالذات على أنه احتلال مؤقت، لهذا يعارض الاستيطان وكل ما من شأنه أن يجعل حل الدولتين أمرا مستحيلا، وبذلك فإن العالم يدافع عن أمن واستقرار المنطقة، وأمن إسرائيل يكون ضمن إطار امن واستقرار المنطقة وليس على حسابه، أما إذا لم يتحقق الأمن للجميع، فلا يمكن أن يتحقق لإسرائيل وحدها.