العالم يتغيّر وإسرائيل أكثر الخاسرين

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 


كان لا بدّ أن يصل المشروع الصهيوني إلى ما يُعبّر عنه حال منتجه الأول دولة إسرائيل.
المشروع في أساسه استعماري من طراز فريد، وها هو يرتدّ مرّة أخرى، ليصل إلى المأساة، ويُعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الشروع في تنفيذه، حيث تعود أزمة المسألة اليهودية إلى كونها صدعاً للمجتمعات التي جاءت منها هجراتهم إلى فلسطين، لكي يعودوا إلى الشتات في ظلّ أوضاع دولية مغايرة.
لا مجال للتراجع، أو ترميم أدوات المشروع الصهيوني، فلقد دخلت إسرائيل إلى النفق المظلم، وما سيأتي سيكون أكثر بشاعة بما يستدعي تفكيك هذا المبنى الاصطناعي المؤقّت، وإن كان عمره سيمتدّ إلى مئة عام.
إسرائيل تتحوّل إلى دولة منبوذة عالمياً، حتى أن أربابها الدوليين لم يعودوا قادرين على احتمال، أو احتواء هذه الأزمة طالما أنهم هم، أيضاً، مأزومون.
في اعترافٍ نادر يصرخ وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، أن الأوضاع بعد الحرب العالمية الثانية، التي تُعرف بزمن «الحرب الباردة» قد تغيّرت، وأن ثمّة تنافساً محموماً، لا يعرف ما بعده.
بموازاة الزلازل الطبيعية التي تتنقّل في أنحاء الكرة الأرضية، ثمّة زلزال من صُنع البشر، يهدّد بانهيارات تاريخية كُبرى لا تطال فقط النظام الدولي السائد، وإنّما قد تُطيح بإمبراطوريات ودول ظلّت تتعيّش على ثروات ودماء ودموع شعوب الأرض.
الولايات المتحدة وحلفاؤها، وهم أكثر من ثلاثين دولة، يُجنّدون كلّ طاقاتهم لمنع هذا التحوُّل، وقد راهنوا ولا يزالون يُراهنون على إمكانية إلحاق الهزيمة بروسيا التي تدشّن هذا التحوُّل دون أن تكون وحدها من يُقرّر نهاياته.
تثبت روسيا أنّها دولة عظمى على الرغم من اقتصادها الذي لا يُضاهي اقتصادات دول تحظى بنحو نصف الإنتاج العالمي، روسيا الدولة النووية الأكبر على سطح الأرض، ستكون هزيمتها المستحيلة أسوأ على البشرية من انتصارها، ذلك أن الشُعور بالخطر الوُجودي كما يُعبّر عن ذلك مسؤولون روس، سيدفعها لإطلاق كلّ طاقتها التدميرية فإذا كانت روسيا ستشطب من الخارطة، فإن دولاً أخرى كثيرة ستشطب هي الأخرى.
يعتقد أصحاب القرار في دول التحالف الدولي الذي يخوض الحرب ضد روسيا من خلال أوكرانيا، أن إلحاق الهزيمة بروسيا، من شأنه أن يخدم صراعها مع التنّين الصيني الذي يشكّل باعترافهم الخطر الإستراتيجي الأكبر على النظام الدولي القائم.
لذلك ومبكّراً تفعّل الولايات المتحدة وحلفاؤها نظام العقوبات ضد الصين والشركات الصينية، ولا تتوقّف عن حشد الأساطيل والجيوش والحلفاء من حول الصين في انتظار ساعة الصفر، التي لا تبدو بعيدة.
وكما الحربان العالمية الأولى والثانية، فإن هذه الحرب سيطول أمدها إلى سنوات، وستجرف في طريقها الكثير من الاقتصادات حتى التي تبدو قوية الآن، والتي أخذت تعاني من طفح توظيف كل إمكاناتها في الحرب ضد روسيا والصين.
لن تفلح الترسانة النووية الأميركية، والبريطانية والفرنسية، والترسانات العسكرية الضخمة لدى «دول الناتو» من وقف تداعيات الحرب، حيث بدأت الأزمات تنتقل إلى مجتمعاتها.
أزمة إفلاس خمسة بنوك كبرى في الولايات المتحدة، وارتفاع أسعار المواد الأوّلية فيها، بالإضافة إلى ما يُعانيه المجتمع من صراعات، يؤشّر على احتمال عودتها إلى مظاهر أزمة 2008، التي لم يتعافَ فيها الاقتصاد الأميركي بشكلٍ كامل.
العقوبات التي تعتمدها الولايات المتحدة ضدّ من تعتبرهم أعداءها هي سيف ذو حدّين، ففي ظلّ نظام العولمة، من الصعب إعادة تكييف الاقتصاديات التي اعتمدها، في ظلّ الانقسام العالمي الجاري، وظواهر الاستقطاب التي تزداد حدّة، وتغلق عليها بعض الأسواق والاستثمارات.
ما يجري في فرنسا وبريطانيا، ودول أخرى من إضرابات لفئاتٍ اجتماعية واسعة، ومهمّة في المجتمع، ستكون لها تداعيات وتكاليف اقتصادية، فضلاً عن تعميق ظواهر الانقسام السياسي والاجتماعي والثقافي بسبب التركيبة الاجتماعية لتلك الدول، التي تتميّز بوجود ملايين المهاجرين الذين يتعرّضون للتهميش والفقر.
أين منطقة الشرق الأوسط من كلّ هذه التغيّرات؟
لا تُخفي الولايات المتحدة تراجع اهتمامها ووجودها في منطقة الشرق الأوسط، لتركيز اهتمامها وفق أولويات مختلفة نحو مجابهة الخطر الروسي والصيني في الأساس.
أقصى ما تُريده الولايات المتحدة في ضوء ذلك، هو بقاء منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن الانفجار، الأمر الذي يشكّل أحد أبرز نقاط الخلاف الخطيرة مع إسرائيل.
المنطقة تتغيّر وفيها تتغيّر قواعد اللعبة السياسية، بما يؤشّر على إستراتيجيات الدول المهتمة إقليمياً ودولياً. هذا التغيّر بدأت أولى مؤشّراته، حين فشل جو بايدن، خلال زيارته للعربية السعودية والقمم التي حضرها، في أن يحصل على ما أراد الحصول عليه سواء فيما يتعلّق برفع مستوى إنتاج النفط، أو إقامة «التحالف السنّي» بإشراف الولايات المتحدة، ومشاركة إسرائيل كدولةٍ فاعلة فيه. وفشل بايدن حينذاك، وإلى الآن، في أن يوسّع دائرة «التطبيع» ليشمل العربية السعودية ودول أخرى مرشّحة سعت الولايات المتحدة لضمها إلى «قطار التطبيع».
المؤشّر الثاني حين اتخذت «أوبك بلس»، قرارها بتحديد سقف إنتاج النفط، في ظلّ احتدام أزمة الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي أزعج الإدارة الأميركية، وجعلها تعتمد على مخزونها الإستراتيجي لتلبية احتياجات حلفائها، ووقف اعتماد الدول الغربية على مصادر الطاقة الروسية.
أمّا الضربة الأكبر، فجاءت من نجاح الصين في جمع الطرفين اللدودَين (العربية السعودية وإيران)، ونجاح اللقاء في التوصّل إلى اتفاق يقدم الحوار وإعادة العلاقات وبناء الثقة المتبادلة بدلاً من لغة الخوف والتهديد واستخدام القوّة.
لقاء بكّين من شأنه أن يُقلق الولايات المتحدة، ويُضعف موقفها في التفاوض مع إيران، أو التهديد بعمل عسكري ضدّها، كما أنه يُضعف مُبرّرات إسرائيل التي تبحث عن سببٍ لارتكاب حماقة عسكرية ضدّ إيران هي بحاجتها لتخفيف وطأة الأزمة الداخلية.
التحوُّلات تتواصل، حيث أوقفت الإمارات العربية بعض الاتفاقيات مع إسرائيل، ورفضت استقبال نتنياهو، وهي تتّجه نحو الوُجهة التي ذهبت إليها العربية السعودية باتجاه إيران.
في هذه الحال لا مهربَ لإسرائيل من أن تتّجه نحو عميق عُزلتها الدولية، ذلك أن الساحة التي تعوّدت مهاجمتها وهي سورية قد بدأت تطبيع علاقاتها مع الإمارات العربية، والعربية السعودية، الأمر الذي سيجعل من أيّ مغامرة تقوم بها ضدّ إيران مباشرة أو غير مباشرة، توريطاً غير مرغوب لحلفائها «الغربيين»، خصوصاً أميركا.
أزمة إسرائيل تتفاقم بسبب افتضاح طبيعتها العنصرية، ومسؤوليتها عن التصعيد في الضفة الغربية والقدس، ومحدودية خياراتها لتصريف أو تخفيف أزمتها الداخلية التي تهدّد باندلاع حربٍ أهلية.