قبل نحو اسبوعين جاءت عميره هاس مرة اخرى بشهادة انسانية قاسية وذات مغزى تاريخي مهم على ما يجري في المناطق المحتلة («المغارة ويعلون»، هآرتس، 13/1): كيف تحولت بؤرة «يشوف هداعت»، واحدة من سلسلة بؤر استيطانية غير قانونية اقيمت في منطقة قرية قريوت الفلسطينية، لتصبح مكانا استخدمه عميرام بن اوليئيل للرقابة وتخطيط القتل ضد عائلة دوابشة. الارض التي اقيمت عليها البؤرة العشوائية هذه كانت تعود منذ قبل 1967 لعائلة فلسطينية كانت تنال رزقها من فلاحة الارض ورعي الاغنام. في اعقاب عملية سيطرة استعمارية نموذجية وبرعاية الجيش الاسرائيلي، الذي لم يفعل شيئا ليمنع تنكيل المستوطنين بالعائلة اضطرت اخيرا الى اخلاء ارضها. وسيطر السالبون على ممتلكاتها؛ وتحول المسلوبون الى عمال مياومين لدى اليهود. هذه هي الارضية التي تربى وترعرع فيها بن اوليئيل. مثله يوجد كثيرون آخرون في بلاد الاستيطان والسلب. في اسرائيل يتعاطون مع اطفال السكاكين، الذين يضحون بحياتهم كارهابيين خطرين. مثل هذا التعاطي هو بالطبع السبيل الاسهل للحكم، الذي يعانق بحرارة السكان السالبين، ويعين في مناصب اساسية في الجيش، في الشرطة، وفي جهاز القضاء اناسا يتماثلون معهم ومع ارائهم. ويحرص جهاز المخابرات على تنقيط الرسالة المعروفة: الفتى الذي قتل بوحشية دفنه مئير في عتنئيل تعرّض للتحريض من التلفاز الفلسطيني. الطفلة ابنة الـ 13، التي لاقت حتفها بنار شرطي في عناتوت فعلت ذلك لأنها تنازعت مع ابويها. وكأنه سلوك طبيعي للطفل الذي يتنازع مع أبويه أن يهرع حاملا سكين مطبخ نحو حارس مسلح بسلاح اوتوماتيكي. فمن على الاطلاق انتبه للخيمة التي تدلف، المضروبة بين اكوام الوحل والقمامة، حيث تسكن مع عائلتها، فيما تقابلها فيلل المستوطنين ذات سطوح الكرميد الاحمر. من في الحكومة العنصرية والعنيفة يهمه على الاطلاق ما يحصل لهؤلاء الاطفال. فنزعة الشر لدى الاسرائيليين لا تسمح لهم بان يفهموا بان هؤلاء في واقع الامر يردّون على اليأس وانعدام الجدوى اللذين يسودان حياتهم. قد لا يكونون يستطيعون شرح ذلك على هذا النحو، ولكنهم يبذلون محاولة فاشلة تماما لمنع اسرائيل من الوصول الى المرحلة النهائية من تطبيق سياسة الاستعمار، السلب، والابرتهايد في «المناطق». في «بلاد اسرائيل»، مثلما في مناطق اخرى ترسّخ فيها في الماضي الاستعمار الاستيطاني وسالب الارض (شمال أميركا، استراليا، جنوب افريقيا، ناميبيا)، لم يبدأ الاستعمار بالتطلع الى السيادة السياسية. فقد وصل المستوطنون اليهود الجدد الى هنا لاسباب اقتصادية بسبب اضطهاد اللاسامية، او بسبب الخيال الرومانسي عن مجتمع جديد يمكنهم أن يقيموه. ولكن انسالهم، او جماعات اخرى وصلت مع مرور السنين، رأوا منذئذ في المكان وطناً لهم وارادوا أن يجسدوا سيادتهم فيه. وقد حصل هذا المطلب اليهودي على التعزيز والاعتراف ما بعد الكارثة. ولا يشكك اليوم أي محفل دولي مهم، بما في ذلك القيادة الفلسطينية، في القانونية والشرعية التاريخية لهذه السيادة، في حدودها حتى العام 1967. ولكن منذ تلك السنة بدأ يتطور مشروع استعماري سالب في المناطق المحتلة، لم يستكمل بعد مهمته مثلما نجحت في عمله مشاريع استعمارية في اماكن اخرى في العالم، وذلك لأنه لم يستخدم الخطوات الاكثر تطرفا للاستعمار السالب: التطهير العرقي العنيف او قتل الشعب. ولكنه سار بعيدا جدا في المراحل الاولية التي ميزت حالات مشابهة في الماضي: السيطرة منفلتة العقال على الاراضي، الخنق الاقتصادي، السياسي والثقافي للسكان المحليين، الارهاب والعنف تحت رعاية غض النظر من الدولة، الفصل العرقي وبالاساس – نقل رسالة لا لبس فيها بان الوجود الاستعماري ليس مؤقتا، بل خالد. وتؤدي هذه الرسالة بالسكان المحليين الى كفاح يائس، هدفه استعادة ما يُشعر بانه يوشك على أن يُفقد الى الابد. فهو يقاوم، يثور وينتهج «الارهاب». في ناميبيا، في شمال أميركا وفي استراليا أدى الرد على هذه المقاومة الى قتل الشعب. لقد استمر الاستعمار الاستيطاني لفترات زمنية طويلة، وهو موجود في الضفة الغربية منذ نحو خمسين سنة. في الاماكن التي استكملت فيها هذه المسيرة بانتصار مجتمع المستوطنين في الولايات المتحدة أو في استراليا مثلا، حيث حكم على المحليين المتبقين على قيد الحياة بـ»الموت الاجتماعي» الذي استمر اجيالا طويلة. ومكان الابادة والطرد احتلت مسيرة تفكيك اجتماعي داخلية عنيفة، تضمنت مثلا، اخراج الاطفال من عائلاتهم وتربيتهم في بيوت تعليمية خاصة، وخنق المنظومة الاقتصادية، الدينية، المجتمعية والثقافية الخاصة للمحليين. وكانت النتيجة وفيات عالية، ادماناً، بطالة، فقرا، عنفا داخليا، جريمة وتعفنا فاسدا. اجزاء من المجتمع الفلسطيني توجد منذ الآن في مثل هذا الوضع. ثمة علاقات مركبة توجد بين المستوطنين وبين الدولة. فولاء المستوطنين للسلطة السيادية مشروط برغبتها وقدرتها على مواصلة وجود وتعميق حقوقهم الزائدة. وعندما يبدو لهم أنها لا تفعل بالضبط ما يعتقدون ان عليها أن تفعله، فانهم يفعلون هذا بأنفسهم، انطلاقا من الايمان بان الدولة التي تساندهم لن تقف جانبا، وستجند قوتها كي تكمل ما بدؤوه. هكذا فعل المستوطنون الفرنسيون في الجزائر، ممن أداروا حملة ارهاب ضد المسلمين، وهكذا فعل المستوطنون الألمان في ناميبيا في بداية القرن العشرين لابناء الهرارو، وهكذا يتصرف اليوم المستوطنون في «المناطق»، ممن يجرون اسرائيل الى المرحلة التي يكون فيها عليها أن تجسد تطلعهم المسيحاني. والقضية الاخيرة للمنازل في الخليل هي مجرد مثال واحد من بين امثلة كثيرة جدا على مثل هذه الحالات. ترى المسيحانية الاستيطانية، التي تعرض بوقاحة كاستمرار للصهيونية التاريخية، الملكية على «ارض الميعاد» بانها منصوص عليها في كوشان توراتي. بمعنى أن موقفها ليس وجوديا بل صوفي. وهذا يجعل الاستيطان في «المناطق» ذا قدرة كامنة على الاجرام على نحو خاص. في الماضي، رأى المستوطن الألماني، الفرنسي، او الانجليزي نفسه ينتمي الى مجموعة عرقية تملك الحق في خلافة البلاد بسبب التفوق العرقي – الثقافي لمجموعة سكانية هي جزء من حضارة عليا وأفضل من حضارة الاصليين. وبالمقابل فان المستوطن الاسرائيلي لا يرى نفسه فقط أعلى من ناحية اخلاقية، ثقافية ودينية (واحيانا عرقية ايضا)؛ بل يرى نفسه اصيلا تاريخيا، صاحب البلاد الوحيد، الذي بشكل مؤقت فقط نفي عن وطنه. والفلسطينيون في نظره هم سكان غرباء، يشترط وجودهم بارادة اليهود. فالاستعمال السالب يتوقع دوما من الاصليين ان يلعبوا اللعبة، أي، ان يوافقوا على سلبهم من اراضيهم وممتلكاتهم، وأن يخدموا بولاء احتياجات المستوطن كعمال سود في مزارعه وما شابه. وطالما يتصرفون هكذا يكون وجودهم محتملا. ولكن المستوطن اليهودي لا يمكنه، على المدى البعيد ان يحتمل وجود الـ»اصيل» الفلسطيني، ليس فقط لأنه يرفض قبول قواعد اللعب ويرد بعنف شديد، بل لان وجوده المادي يترك على قياد الحياة السؤال الاساس: من هو الاصيل الحقيقي في هذه البلاد؟ وعليه، فان الهدف النهائي لايديولوجيا المستوطنين في «المناطق» ليس الخضوع الطائع من الفلسطيني للوحشية الاسرائيلية بل الاختفاء التام للأصيلين. في الحالات التي كانت مشحونة بعناصر اقل من الهوية والايمان المسيحاني، انتهى هذا بالطرد او بالقتل الجماعي. والواقع في «المناطق» يتدهور الى مثل هذا الخطر. فغير قليل من المستوطنين في الضفة يعملون كي يجعلوا هذه اللحظة تحصل. لقد باتت الضفة الغربية منذ زمن بعيد تشبه البانتوستانات في جنوب افريقيا أو محميات الهنود في الولايات المتحدة قبل نحو مئة سنة. قطاع غزة الخرب والمحاصر يذكر أكثر فأكثر بغيتو وارسو. وكان أحد قادة الهنود الحمر، الذي قال ضد الأميركيين في القرن التاسع عشر بعد سنوات عديدة، عشية وفاته: «عندما أنظر الى الوراء، الآن من التلة العالية للشيخوخة، لا أزال بوسعي أن ارى الموتى يستلقون في كل أرجاء البلاد. ويمكنني أن أرى شيئا ما آخر مات ودفن هناك في الوحل المضرج بالدماء. حلم الناس مات هناك». اطفال السكاكين الفلسطينيون يضحون بحياتهم في نوع من المحاولة اليائسة كهذه لمنع موت حلمهم ودفنه النهائي.