كالمعتاد في مطارحنا، للاستقلال قوانين خاصة به؛ فاليسار يحتفل بالاستقلال بتوق إلى ماضٍ ديمقراطي – علماني – ليبرالي، واليمين يحتفل باستقلال في أمل لمستقبل حريدي، مسيحاني – بيبي. في الجانب العملي، يعد الطرفان الحرب على استقلالهما.
الإسرائيليون الواعون ملزمون بالتفرغ لحساب النفس ووضع “استقلال” دولة إسرائيل على الطاولة: السياسة الخارجية، والأمن والداخلية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو واليمين انهارت، وكل الدول العربية تدير سياسة كدية تجاه إسرائيل وهي احتمال كامن حقيقي لتصبح عدواً نشطاً يستوجب استعداداً مناسباً (تحذير شعبة الاستخبارات “أمان”).
الدول المتنورة في العالم تقاطع حكومة اليمين، أي دولة إسرائيل، أما أسوأ الدول فلا تكترث بنا. بلغة الليكوديين – كلهم إيران، وبلغة الصهيونية القومية المسيحانية كلهم أغيار. في الحساب العام ليوم الاستقلال لا تنظروا فقط إلى الموازين (هذا أيضاً ليس شيئاً ما) أو الأبراج (المزدهرة) أو حديقتكم الخاصة.
القصة الحقيقية هي مسيرة التفكك. لم يسبق لدولة إسرائيل أن كانت مهزوزة أكثر اقتصادياً وأمنياً، وشعب إسرائيل منقسم أكثر. في لغة الليكوديين – الكل هناك في الجانب الديمقراطي – الليبرالي يساريون خونة. في لغة الصهيونية القومية المسيحانية هم أسوأ من الأغيار.
تطفو من داخل جزر الخرائب أحياناً شخصية منطفئة، شبح سياسي يتلفظ بعبارات شوهاء. وفي محيطها يحتفل المعجبون فتفر إلى فقاعتها على عجل. الرب وحده ود. هيرمن تسفي بركوفتش، طبيب نتنياهو، يعرفان ماذا يحصل هناك. عيد استقلال سعيد لك أيضاً، سيدي رئيس حكومة مقطوعي الأطراف وجامعي الفتات. وبينما نحن “نحتفل” تدور هنا رحى حروب استقلال من الخارج والداخل. من الخارج يقاتلنا، جسدياً، الفلسطينيون و”حزب الله”. من الداخل، تدور بالتوازي صراعات استقلال تقف على عتبتنا: استقلال متظاهري الاحتجاج في مواجهة استقلال المستوطنات واستقلال الحريديين وشاس. صراع رأس برأس وحتى الآن بدون رفع أيدي. هذا باستثناء هوامش اليمين التنظيمية، الذي بشرنا هذا الأسبوع بمندوبيه، زعيم “لا فاميليا” كموظف في مكتب رئيس الوزراء.
فضلاً عن بؤس أداء ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، فإن صراع المستوطنين في غير قليل من المزايا الشخصية يشبه صراع متظاهري الديمقراطية الليبرالية. فالمستوطنون بمن فيهم القوميون المسيحانيون، مثل العلمانيين الديمقراطيين، ليسوا مصابين بمستويات الفساد التنظيمي والشخصي لقيادات الليكوديين، وشاس والحريديين. اقطع المستوطنين وقيادتهم عن الجنون الحاخامي والسياسي الحزبي، حينئذ ستجد فئة سكانية ذات إمكانية إشفاء تتوق لمثلها دولة إسرائيل.
مسيرة من هذا القبيل حصلت عندما ساهمت الحركة الكيبوتسية (وإن كانت قطرة في بحر) لمجتمع إسرائيلي آخذ في التعفن من خلال أجيال من الشباب ممن تربوا على قيم الاستقامة الشخصية والتنظيمية. بالإعداد، بالمناسبة، يدور الحديث اليوم عن الأغلبية المطلقة من الديمقراطيين العلمانيين في مواجهة أقلية بائسة من المستوطنين، وهنا يدخل الحريديون إلى الصورة. في هذه المرحلة، ارتبط الصراع الحريدي بالصراع الاستيطاني. وهذان الطرفان يقاتلان في سبيل القيم إياها، وهذا خطأ. سياسيو الحريديين هم الحلقة القوية لمعسكر اليمين وكفيلون بأن يتحولوا بجرة قلم إلى الحلقة التي تفكك الشراكة.
ظاهراً، ليس لهم ما يدعوهم لرفض الطبق الفضي لنتنياهو. عملياً، يسود هناك قلق حقيقي في ضوء تدفق شبانهم وطلابهم الدينيين إلى المعسكر المسيحاني، وبالتوازي الفهم بأن استمرار تفكك الدولة تحت حكومة اليمين معناه تضخم مالي، وأزمة اقتصادية تمس بهم وعلاقات عداء في مستوى الاحتقار تجاه العلمانيين.
نوعان من الثكل
إذا كنا في يوم الاستقلال محكومين لحساب سياسي واعٍ، فإننا في يوم الذكرى محكومون بحساب نفسي لا يوجد ما هو ممزق أكثر منه، وبخاصة حين يكون السطر الأخير في هذا الحساب يشخص ظلاً ثقيلاً من الخوف فيما إذا كان كل هذا (أيام الذكرى، الثكل، الفقدان) جديراً.
المجال العام في مظاهرات الاحتجاج مليء بيافطات مثل “لو كان أحد ما يقول لي قبل بضع سنوات إني سأصرخ بألمي على رؤوس الأشهاد، وإني سأفعل هذا في سياقات سياسية، لما كنت أصدق، أما اليوم فإني ملزمة أن أفعل هذا، وملزمة أن اقول، باسم أخي أيضاً أني أخجل من الدولة التي ضحى بحياته دفاعاً عنها”.
عائلات ثكلى طلبت من ايلي بن شم، رئيس منظمة “يد للأبناء” عدم السماح بخطابات السياسيين في احتفالات يوم الذكرى لأجل “منع الاضطراب الذي قد يقع من على قبور الشهداء”. وروى الرئيس بأنه تلقى 8.500 طلب مشابه وأضاف بأنه “يوجد أهالي يتصلون بي عدة مرات في اليوم. واحد منهم لواء في الاحتياط أعلن أنه لن يسمح للسياسيين بالتحدث في هذا اليوم، وأنه سيأتي مع مكبر للصوت إلى المقبرة. ومثله آخرون، وتوجد أماكن مثل بئر السبع حيث سيصل الوزير ايتمار بن غفير، وحيث انتظامات كبيرة ضد هذا”.
من خلف صرخات الاحتجاج هذه تختبئ مأساة الثكل الأكبر لدولة إسرائيل، ويتشارك فيها اليمين واليسار، باستثناء أن ثكل اليمين هو ليس ثكل اليسار. مظاهرات الاحتجاج من أجل الديمقراطية هي النص الخفي الذي يقول إننا لم نقاتل فقط ضد الفلسطينيين في غزة، و”حزب الله” في لبنان، وإيران في سوريا، بما في ذلك مصر وسوريا في الأيام الستة وفي يوم الغفران. فهذه كانت أيضاً حروباً على هوية إسرائيل كدولة ديمقراطية.
الآن، في يومي الاستقلال والذكرى، يتفجر غضب الثكل اليساري على من يذرون الرماد في العيون ممن حولوا هذه الحروب إلى مسار الدكتاتورية. حسناً، في الحفر إلى العمق يكون هذا أكثر تعقيداً. لثكل اليمين جذور إيمانية، غير أنه لا مفر للجمهور الليبرالي الديمقراطي: إما خسارة على كل قطرة دم سكبت في الماضي أو الاعتراف في أن حروب إسرائيل ليست فقط على الوجود بل على الوجود الديمقراطي وضد الدكتاتورية الإيمانية.
قسم مؤسف على نحو خاص في يوم الذكرى الحالي هو الشكل الذي تدير فيه الحكومة أيديولوجيا عنصرية بالنسبة لاحتفالات الوحدة لعائلات الثكل اليهودية والفلسطينية. ينبغي للمرء أن يكون ذا قلب من حجر أو مسيحاني غريب الأطوار بدرجة 10 في سلم سموتريتش كي يمنع لقاء العائلات. أو سياسي جبان متعلق ببن غفير (مثل وزير الدفاع يوآف غالنت) كي يمنع اللقاءات بتبرير أمني. مما يكشف التهديد الأمني الذي حذر منه غالنت: اجتماع مشترك لعائلات ثكلى، فلسطينية وإسرائيلية، يقوض أساسات عزائنا، وكأنه مساوٍ للعزاء الفلسطيني.
قبل سنتين أيضاً رفض جهاز الأمن طلب العائلات، والمحكمة العليا ردت الرفض. منظمو الاجتماع هذه السنة هم “مقاتلون من أجل السلام” (أولئك الذين خدموا في الجيش، نعم؟ ليس بن غفير وسموتريتش) هم الذين ردوا: “غالنت ذعر من التهديد بالإقالة ويسير على الخط مع جنون فاشٍ وكم أفواه. في محاولة للدوس على قرار العليا باسم التزلف للبيبية، يبدو أن غالنت مستعد للانبطاح أمام البيبيين”.
هذا ليس تزلفاً. هذا حساب سياسي بارد أمام جني غانتس لأصوات اليمين.
معاريف