تعود بداية معرفتي بالداعية والمفكر الإسلامي الكويتي د. طارق سويدان إلى عام 1983، حيث التقينا في مدينة "فورت كولنز" بولاية كولورادو الأمريكية، التي كنت أنا والدكتور موسى أبو مرزوق ندرس الماجستير في جامعتها الشهيرة (CSU)، وكان وقتها الأخ طارق طالباً بقسم هندسة البترول في جامعة تلسا بولاية أوكلاهوما، حيث أنهى فيها دراسة الماجستير والدكتوراه.
كنا في تلك الفترة نحظى بمكانة قيادية في صفوف الحركة الإسلامية، حيث كان د. طارق مسؤولاً عن الدائرة التربوية، وكنت أعمل معه في تلك الدائرة مشرفاً عن نشرة (درب الدعاة)؛ وهي إصدار يتضمن أفكاراً وتوجيهات لشباب الحركة الإسلامية.
كان د. طارق من أنشط الشباب الخليجي، بل ومن قياداته الإسلامية البارزة، حيث كان أحد المؤسسين لرابطة الشباب المسلم العربي (MAYA)، التي كانت مظلة آمنة لعملنا الدعوي وسط الطلاب العرب، حيث كنَّا في إجازة نهاية العام (الكريسماس) نعقد مؤتمرنا السنوي، الذي يشارك حضوره ستة آلاف شخصٍ بعائلاتهم، وكانت فعالياته تستمر لمدة أربعة أيام، كنا خلالها نعيش أجواءً إسلامية، ونتلقى من العلوم الشرعية وفقه الأقليات ما ينفعنا في غربتنا وأمر ديننا.
كان الإسلاميون في الغرب يتحركون بحرية كبيرة، حيث لا قيود على أنشطتهم الفكرية والدعوية، وكان العلماء المشهورون من دعاة الحركة الإسلامية يأتون إلى أمريكا طول العام للمشاركة في ملتقيات جاليتنا العربية واحتفالاتها الإسلامية، ويقومون بتقديم الدروس والمواعظ الدينية في المساجد والمراكز الإسلامية.
كان د. طارق نجماً دعوياً لا يُشقُّ له غبار في سماء العمل الطلابي الإسلامي بأمريكا، وكان متميزاً في أسلوبه وطريقة عرضه لمحاضراته بمختلف جوانب المعرفة الإسلامية، وكان شخصيةً محبوبةً بين الشباب لما يتمتع به من انفتاح ووعي سياسي، وما يمتلكه من المهارات والأساليب الدعوية، وهو إنسانٌ صاحب دُعابة (نكتة)، تجعلك تشعر بأنه قريب إلى قلبك.
في تلك الفترة من أواسط الثمانينيات، كان هناك تنافس بين الإخوان على قيادة الحركة الإسلامية، حيث كان يترأس التنظيم الأستاذ أحمد مكي؛ أخٌ من السودان، وكانت تربطه صلة قرابة بالدكتور حسن الترابي، الأمر الذي أوجد تخوفات وخِشية لدى بعض القيادات التنظيمية من مصر والأردن بأن الأخ أحمد مكي يتحرك بالتنظيم الإخواني باتجاه فكر د. حسن الترابي، الذي أخذ في توجهاته بالابتعاد عن إخوان مصر وعن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
في ظل تلك الأجواء الإخوانية المشحونة بالشكوك والتوتر، بدأتُ أكتب سلسلة من المقالات التي لها علاقة بخلافاتنا التنظيمية، وأتعرض للأخ أحمد بلغة ربما اشتمَّ منها أن هناك شيئاً يُحاك ضده، وخاصة أننا كنا مقبلين على مرحلة انتخابية عامة للتنظيم. ولذلك، اتخذ قراراً بوقف النشرة عن الصدور، بعد أن راجعني إن كان هناك من يحرضني على استهدافه كالأخ طارق سويدان.
دارت الليالي والأيام، وجرت الانتخابات التي خسرها، وكانت نتائجها لصالح الإخوة من مصر وفلسطين والأردن والكويت، وتحقق لهم بذلك تغيير القيادة، واختيار د. أحمد القاضي؛ وهو طبيب مصري، يتميز بأخلاقه العالية وسلوكه الأبوي لقيادة التنظيم. ومع مجيء د. أحمد القاضي (رحمة الله)، عُدتُ إلى إصدار النشرة من جديد.
كان د. طارق سويدان من أقرب الإخوة القياديين لعملنا الفلسطيني، إذ لم يتوقف يوماً عن دعمه المعنوي والمادي لأنشطتنا على الساحة الأمريكية، ولم يتغيب عن فاعليةٍ دعوناه للمشاركة بها.. ومن شدة تعلقه بالقضية الفلسطينية كتب الكثير عنها، ومن أشهر ما كتب كانت موسوعة (فلسطين.. التاريخ المُصوَّر)، وهي من بواكير إبداعاته، وأيضاً (اليهود..
الموسوعة المُصوَّرة)، ومن بين كتبه التي تخطت المائة كتابٍ، كانت لفلسطين القضية والتاريخ وفرةً منها، ومن محاضراته المتلفزة على أكثر من فضائية عربية.
لقد نشأ د. طارق سويدان وترعرع منذ نعومة أظفاره في أجواء إسلامية فلسطينية، حيث كان مسكنه في الكويت وسط أحد الأحياء التي تقطنها أغلبية فلسطينية، وكان أحد مشايخه الداعية الفلسطيني د. عمر الأشقر (رحمه الله)، ومن زملاء المسجد الذي كان يصلي فيه الأخ خالد مشعل، وآخرون من رموز العمل الفلسطيني من الإسلاميين.
وعندما آلت قيادة التنظيم الإخواني في أمريكا إلى د. موسى أبو مرزوق في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، كان د. طارق دائماً إلى جانبه، وقد عملا معاً في قيادة الحركة، والارتقاء بها وبأنشطتها إلى أوائل التسعينيات، وقد كلفني كلا الأخوين -آنذاك- بالإشراف على دائرة التثقيف السياسي ونشرة (السياسي.. مفاهيم ومواقف).
إنَّ واحدةً من اللحظات الصعبة التي عشناها مع د. طارق أنه قبل يومٍ واحد من تخرجه الجامعي سقطت الكويت، إذ وقع الغزو العراقي لبلاده في الثاني من أغسطس 1990. ومع احتلال الكويت، أصبح د. طارق بدون وطنٍ يعود إليه، لذلك جاء إلى واشنطن وافتتح مكتباً سياسياً للدفاع عن قضية بلاده، وحشد الدعم والتضامن لها، وقد وقفنا إلى جانبه لدعمه معنوياً، وقد نجح في مهمته لعلاقاته الواسعة على الساحة الأمريكية.
في تلك الفترة، كنا حقيقةً من أكثر الناس تعاطفاً معه وقرباً إليه.. إذ تفهمنا حجم المحنة التي ألمَّت به وببلاده، وتحركنا لنقدم له -في سياق الرأي والمشورة- كلَّ ما نستطيع، فهو أخٌ عزيزٌ على قلوبنا، ولطالما كان سنداً لنا ولقضيتنا، والآن جاء وقت السداد واختبار الوفاء.
ومع تحرير الكويت، غادر د. طارق أمريكا عائداً إلى بلاده، وظل التواصل وحبل الودِّ معه قائماً.. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، انقطع التواصل بيننا، ولم ألتق به إلا في أحد زياراته الصيفية في عام 2003، حيث أحضر إلى أمريكا مجموعة من الشباب الكويتي في برنامج دعوي ترفيهي لمدة شهر تقريباً، وكان يطوف بهم في العديد من الأماكن والمدن التي تحظى بقيمة تراثية عالمية، إضافة إلى زيارة المراكز الإسلامية المنتشرة في العواصم الغربية.. كانت تلك الرحلات بمثابة سياحة ترفيهية وتثقيفية للتعريف بالإسلام وحضارته، والتعرف على قضايا الأمة ومنها قضية فلسطين.
كانت تربطني بالأخ طارق خلال سنوات وجودنا في أمريكا للدراسة صداقة قوية، وكانت زوجته الأخت أم محمد من القيادات الإسلامية النسوية، وكانت هي الأخرى على علاقة صداقة بزوجتي، حتى أن اسم ابنتي "مَفاز"، المقتبس من الآية (إنَّ للمتقين مفازاً)، كانوا هم من سبقونا إليه.
بعد مغادرتي أمريكا، التقيت د. طارق سويدان مرة أو مرتين في لبنان وقطر، ولكن متابعتي له لم تنقطع بعد أن أصبح وجهاً إعلامياً مشهوراً على فضائية "الرسالة"، ثم من خلال دوراته التدريبية لبناء الشخصية الإسلامية القيادية، والتي كان بعضها يُعقد في تركيا وماليزيا، وقد قدَّم أيضاً عروضاً مميزة في فضائية القدس الفلسطينية في رمضان لشخصيات عالمية كانت لها بصمات في تاريخ الشعوب والأمم.
كان د. طارق سويدان شخصاً سابقاً لزمانه، وهو أمةٌ في رجل، وكان في أخلاقه آية، وأسلوبه في أدب الاختلاف هو –بحقٍ- مدرسةٌ تعلمنا منها الكثير، وأنَّ ما نحن عليه من سلوكيات وأدب إنما هي بعضُ فيضٍ من سجاياه.