دأبت بعض المحطات الإعلامية في السنوات الأخيرة على ربط المقاومة الفلسطينية بغزة، حتى ترسخ الاقتران بينهما في أذهان الناس.. فبمجرد أن تسمع كلمة مقاومة حتى تربطها بقطاع غزة، وبالصواريخ، وإذا أراد أحد ذكر المقاومة الفلسطينية يستشهد بغزة مثالاً وحيداً.. فكيف، ولماذا تم هذا الربط؟ وما دلالات ذلك؟
في الإجابة المتسرعة والمتوقعة أنَّ غزة باتت ميداناً للحروب مع إسرائيل، وأنّ إطلاق الصواريخ هو العمل المقاوم الأبرز والأهم، بينما في الضفة هدوء مريب، وسلطة تنسق أمنياً مع إسرائيل، ومظاهر ترف في رام الله أطلقوا عليها "فقاعة اقتصادية".. وحتى لو فرضت مدنٌ مثل جنين ونابلس نفسها على الأحداث، فيتم تسويق الخبر وكأنّ المقاومة في تلك المناطق تجري بمعزل عن السلطة وحركة فتح، بل وبالرغم عنهما، وضد توجهاتهما!
قبل تفنيد تلك المقولات، يتوجب التأكيد على رفض أي تقسيم جغرافي أو سياسي أو معنوي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، أو الداخل، فجميعنا أهل، وشعب موحد، نعاني معاً، ونعيش تحت الاحتلال نفسه، وليس لدينا سوى مصير واحد، وعدو مشترك.. ولا يضير الضفة أن يكون الفعل فيها، والصيت لغزة، أو العكس.. فلا يوجد بين جناحَي الوطن أي تنافس، إلا في البذل والفداء والصمود وتكامل الأدوار، وأي شذوذ عن هذه القاعدة يعني ردة وطنية، وانحطاطاً في الخطاب الإعلامي، وهبوطاً أخلاقياً لتحقيق مكاسب حزبية وفئوية ضيقة على حساب المصلحة الوطنية.
بداية، ينبغي إدراك حقيقتين سياسيتين مهمتين؛ الأولى أن قطاع غزة كان الطُعم الأمرّ الذي ذاقته إسرائيل منذ اليوم الأول للنكسة، ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف عن التفكير في كيفية التخلص منه، حتى نجحت في ذلك حين أعادت الطُعم لـ "حماس"، وشجعتها على إحداث الانقسام، والتفرد بحكم القطاع.. وبذلك صار لغزة خصوصية تختلف عن سائر مناطق الصراع.
وبعد حربها العدوانية الأولى على القطاع في شتاء 2008، تم التأكد أن إسرائيل غير طامعة في إعادة احتلال غزة، وغير راغبة في إسقاط سلطة "حماس"، ثم تأكدت تلك الحقيقة عبر حروبها العدوانية التالية (2012، 2014، 2021، 2022)، فكانت في كل مرة تقصف وتضرب وتغتال وتدمر ثم تنسحب مخلفةً وراءها عائلات ثكلى ودماراً هائلاً، وحركة تناضل بعناد لإبقاء سلطتها على هذه البقعة الجغرافية الضيقة، التي تحولت بسبب الاحتلال وبسبب سياساتها الحزبية الضيقة إلى مكان بائس ويائس.
والثانية: أنَّ الضفة الغربية هي ميدان الصراع الأهم والأخطر؛ حيث الضم الزاحف، والاستيطان والتهويد، وقضم الأرض وتمزيقها بالحواجز والجدران، وحيث تجري محاولات إلغاء البعد السياسي للصراع، ومحاولات إلغاء الكيانية الفلسطينية، وتقويض التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني، والتعامل مع الفلسطينيين بوصفهم سكاناً، وليس بوصفهم شعباً له حقوق ومطالب وطنية.
وبالتالي، من أجل تحقيق أهداف إسرائيل الإستراتيجية يتم تكريس الانقسام، وهذا يتطلب إدامة حكم حماس لغزة (بمساعدة أموال قطر)، ويتم إضعاف السلطة والتعمد بإحراجها أمام شعبها (والسلطة بنفسها تساهم في هذا الدور)، والتركيز الإعلامي على أن عنوان الصراع والمقاومة والصمود هو غزة.
الدلالة الأخطر هنا ليست فقط في إنكار وطمس تاريخ النضال الفلسطيني، وتشويه حاضره، ومصادرة وتجاهل دور الفصائل الوطنية، بل وأيضاً في تغييب الضفة الغربية بما فيها القدس، والشتات، وتمييع البعد السياسي للصراع، واستبعاد البعد الجماهيري للكفاح الوطني، وحصره فقط في الصواريخ..
في هذا السياق، يتم تسويق خطاب إعلامي مريب يقوم على الاستخفاف بأهلنا في غزة، والتعامل معهم وكأنهم مجرد شعب مقاوم، بطل، منذور للموت والتضحية.. ولا بأس في تقديمهم لكل تلك التضحيات، وتكبدهم كل تلك الخسائر، حتى لو فقدوا كل أمل في المستقبل، وتحولوا إلى حطام من البشر حتى صارت أغلى أمانيهم مغادرة هذا الجحيم.. يتم ذلك بغلاف من الشعارات البراقة والتملق الزائف والمديح المبالغ فيه، وتجاهل احتياجات أهل غزة اليومية، والاستخفاف بمشاعرهم الإنسانية، وتحويلهم إلى أضحيات رخيصة. تقوم بهذه المهمة جهات إعلامية محددة وبمقاصد مشبوهة، وتساهم فيها انفعالات جماهيرية عاطفية تستنجد بغزة في كل مرة، وكأنها المنقذ، متناسية أنها من تحتاج إلى إنقاذ.
وقد نجح هذا الخطاب في الوصول إلى غاياته، بالرغم أنه خطاب كاذب ومزيف، ويخالف الحقيقة؛ ذلك لأن قبول الكذب أهون وأيسر على الناس من قبول الحقيقة بتعقيداتها ومرّها وتعارضها مع التوقعات وخيبات الرهانات.. ويمكن برهنة ذلك ببساطة من خلال تحليل الإحصاءات فيما يتعلق بالمواجهات الشعبية والعمليات الفدائية في مدن الضفة ونجاعة أساليبها في المقاومة، وخسائر العدو الحقيقية، سواء البشرية أم السياسية والإعلامية، مقارنة بالمكاسب الإعلامية والسياسية التي تجنيها إسرائيل من وراء الصواريخ، والخسائر الفادحة التي يتكبدها أهلنا في غزة بعد كل جولة حرب، ودون تحقيق أي مكاسب سياسية أو وطنية، مهما كانت بسيطة، بل هناك مزيد من التراجع وهبوط لسقف المطالب الوطنية وتحولها إلى مطالبات تصب مباشرة في مصلحة استدامة حكم "حماس".
في هذه المرحلة القاتمة والصعبة، وفي ظل هذه الهجمة الصهيونية المسعورة هناك الكثير مما يتوجب فعله؛ أفراداً وجماعات: علينا أولا إدراك أنَّ جريمة إسرائيل الكبرى والتي تستوجب المقاومة هي الاحتلال أولاً، أما توعدها وتهديدها فقط بعد تنفيذها لجريمة اغتيال بحق قائد في هذا الفصيل أو ذاك (ونسكت عن بقية الجرائم السياسية وحتى عند استشهاد مواطن عادي)، فيعني أننا نقدم المصلحة الحزبية على حساب الدم الفلسطيني، وما زلنا نستخدم لغة العنتريات والتهديدات الفارغة والتي تعبر عن انحياز للحسابات الفئوية الضيقة.. وأننا نلجأ للغضب اللحظي والانفعالات العاطفية، والتي نفرّغها من خلال بعض التصريحات النارية، وإطلاق صواريخ بلا طائل، وما زلنا أسرى صيغة ردات الفعل الموسمية والفجائية، والتي يتوجب استبدالها بصيغة العمل المقاوم المدروس والدائم، وبمنهجية عقلانية، واستبدال الخطاب الانفعالي بتبني خطاب وطني واعي ومسؤول.
ولتصويب المسار، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وإعادة احترام العالم الحر للنضال الوطني الفلسطيني، نحتاج تصويب الخط السياسي، وتثويره، وإنهاء الانقسام، والتخلص من بعض الأخطاء التي ما زالت تقع فيها المقاومة.. ونحتاج إلى تنظيف أدمغتنا مما علق بها من أوساخ سائر وسائل الإعلام الحزبي والموجه.