أول ما يمكن أن يقال إزاء ارتكاب إسرائيل لجريمة اغتيال قادة «الجهاد» الثلاثة وعائلاتهم في قصف جوي مفاجئ لقطاع غزة فجر الثلاثاء الماضي، هو أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قد استسلم وخضع لوزيره المتطرف إيتمار بن غفير، فأقدم على تنفيذ سياسة الاغتيالات كما طالب بن غفير منذ وقت، وقام نتنياهو بارتكاب تلك الجريمة التي لم تتوقف عند ذلك الحد، بل واصلت «العربدة» الجوية للقطاع خلال الأيام التالية، بهدف الحفاظ على حكومته من السقوط، وبهدف بقائه شخصياً في منصب رئيس الوزراء، بعيداً عن المساءلة القانونية، وأن جريمة حكومة نتنياهو توضح سيره على طريق بن غفير، وهو في طريقه مع حكومته بأسرها، للانتقال إلى مربع التطرف والإرهاب.
الحقيقة أن إقدام إسرائيل على قصف غزة، بعد فترة طويلة من انتقال أوار المواجهة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية إلى الضفة الغربية، يعتبر فعلاً خارج السياق الذي سار عليه الطرفان منذ فترة، وبذلك لا يمكن قراءة دوافع ونتائج ومن ثم أبعاد ذلك العدوان الإسرائيلي ضد غزة، دون أن يكون ذلك مرتبطاً باللحظة التي تمر بها الحكومة الإسرائيلية.
فرغم أن شهر رمضان الذي حمل معه التوتر الشديد كما هي العادة، وبشكل خاص هذا العام، نظراً لوجود بن غفير وبتسئليل سموتريتش في الحكومة، قد مر دون اندلاع مواجهة كسر عظم، ورغم أن المواجهات التي جرت خلال ذلك الشهر، لم تقع بشكل رئيسي حول قطاع غزة، أي بين طرفين أحدهما يغير بطائراته ويطلق حمم قذائفه على العمارات السكنية في القطاع، والآخر يطلق صواريخه على مدن الغلاف الإسرائيلية، بل إن مشاركة غزة كانت محدودة، والى حد بعيد من خلال إطلاق بضعة صواريخ تحذيرية، فيما كانت المواجهة الرئيسية وما زالت بين الجانبين في مدن الضفة الغربية المحتلة، القدس، نابلس وجنين.
فلماذا «تجر» إسرائيل «شكل» غزة، بشكل غريب ومفاجئ وخارج سياق ما توافق عليه الطرفان خلال بضع سنوات مضت، وتحديداً خلال العامين الأخيرين؟
هذا هو السؤال الجوهري، وما يؤكد بأن دوافع إسرائيل، وتحديدا دافع نتنياهو وهو الذي يعطي الجيش قرار الحرب، ولا يكون هناك قرار حرب دون علمه، قد يكون كذلك بالنسبة لأي وزير، ولكن ليس رئيس الحكومة، ما يجيب عن هذا السؤال، هو أن نتنياهو أولاً تعامل خلال شهر رمضان، ربما بسبب الكوابح التي ظهرت حينها بسبب اهتمام واشنطن ومعها عمان والقاهرة، بعدم إطلاق المواجهة في شهر رمضان، خشية أن تفتح أبواب النظاهرات في العواصم العربية، نقول تعامل بضبط نفس إلى حد ما، وظهرت إسرائيل في مواجهة وحدة الساحات، أي في مواجهة جبهات متعددة مفتوحة عليها في وقت واحد، وتحيط بكل حدودها الشمالية والشرقية والجنوبية، وهي تفضل بالطبع، أن تتجنب ذلك الوضع، ما دفع التطرف الإسرائيلي، لشن هجوم سياسي على نتنياهو، باتهامه بالجبن والتردد، وقد تدحرجت الأمور لدرجة أن قاطع بن غفير اجتماع الحكومة، وكذلك فعل نواب حزبه في الكنيست، وبمقاطعة نواب القوة اليهودية صار الائتلاف مكوناً من 58 نائباً في مواجهة 56 نائباً من المعارضة.
بالطبع، لم تقتصر خلافات الشريك المتطرف لليكود ونتنياهو في الحكومة على درجة العنف في التعامل مع الجانب الفلسطيني، والذي يمارسه أيضا الوزير الآخر سموتريتش، الذي تحول إلى قرصان بصفته وزيرا لمالية إسرائيل، حيث يمارس إرهابه على طريقته ضد السلطة الفلسطينية، حين يقرصن كل شهر أموالاً إضافية، منعت منذ نحو عام ونصف حتى الآن السلطة من توفير مرتبات موظفيها، أي من إعالة نصف الشعب الفلسطيني، فضلاً عن تقديم الخدمات له بشكل أمثل، وفضلاً عن مواصلة التقدم في إقامة البنية التحتية للدولة، والدفع بالتنمية قدماً، كفعل واجب وضروري للاستقلال الاقتصادي، بل إن خلافات بن غفير وسموتريتش وحتى بعض قادة الليكود، في مقدمتهم ياريف ليفين وزير العدل، مع غالانت وغيره من قادة الليكود، عميقة وحادة تجاه طرح مشروع خطة اليمين الحاكم لتقويض القضاء والسيطرة عليه.
لهذا ومع اقتراب موعد عودة الكنيست من إجازة الأعياد، حيث اضطر نتنياهو قبل أسابيع إلى تعليق مشروع خطة حكومته تلك إلى ما بعد تلك الإجازة، فإن انتهاء الإجازة يضعه أمام لحظة حرجة، فهو ملزم بالإيفاء بالتزامه لبن غفير بطرح الخطة على التصويت في الكنيست، حيث من شأن ذلك عدم العودة للوراء، ومن شأن ذلك أيضا أن يطلق المعارضة التي تعتمد على الشارع في مواجهة تلك الخطة، والتي لا تقتصر على أحزاب المعارضة وجمهور اليسار والوسط، العلماني والليبرالي عموماً، ولكنها تشمل قطاعات واسعة من الجيش خاصة الاحتياط منه، وحتى بعض جمهور الليكود المعتدل سياسياً والليبرالي اجتماعياً، وحيث كان من شأن الشقاق الإسرائيلي الداخلي حول تلك الخطة، أن يؤثر على علاقات إسرائيل الخارجية مع الحلفاء في الغرب الأميركي والأوروبي، وكان من نتائج ذلك أن تدنت شعبية الائتلاف الحاكم، خاصة الليكود منه في استطلاعات الرأي التي تجري منذ عدة أسابيع، بحيث أصبح الحزب الذي اعتاد على تصدر قائمة الأحزاب في الكنيست، حتى حين لا ينجح في تشكيل الحكومة، في المرتبة الثانية، بعد معسكر الدولة.
ومعسكر الدولة هو حزب الجنرال بيني غانتس، ومعه الليكودي جدعون ساعر، أي أن انتقال الثقل الشعبي من الليكود إلى معسكر الدولة يعني شيئاً واحداً، وهو أن الجمهور الذي ينفضّ عن اليمين الليكودي لا ينتقل للوسط أو اليسار بل إلى حزب الجنرالات والى ما يمكن اعتباره يمين الوسط، هذا إذا اعتبرنا أن حزب «ييش عتيد» بزعامة يائير لابيد ينتمي ليسار الوسط، وما يؤكد هذه القراءة هو أنه في الوقت الذي يخسر فيه حزب الليكود نحو عشرة مقاعد من التي لديه الآن، فإن شركاءه الحريديين يحافظون على مقاعدهم، كذلك شريكه المتطرف لا يخسر كثيراً من مقاعده، كل ذلك مقابل أن «ييش عتيد» لا يتقدم، بل يتراجع قليلاً، والعرب يبقون على مقاعدهم، أما اليسار فانه يبقى كما هو، مع تبادل المواقع بين العمل وميرتس، فإذا كان ميرتس لم يتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات السابقة، ولم يدخل الكنيست الحالي، فإنه يحل مكان حزب العمل، الذي لن يتجاوز نسبة الحسم، كما تشير استطلاعات الرأي.
وإذا كان نتنياهو بحاجة إلى صقرية بن غفير، ليعيد الشريك المتطرف إلى مربع الشراكة، وكان بحاجة إلى «عنترية» عسكرية ليعيد الجمهور الذي خرج من دائرة حزبه وذهب لحزب خصمه غانتس، الذي تتصاعد احتمالات أن يكون هو من ينافسه على مقعد رئيس الحكومة، في المرة القادمة، فإن كل هذا دفع نتنياهو وغالانت كي يقدما على تنفيذ جريمتهما في غزة.
والغريب في الأمر هو أن نتنياهو بعد أن ارتكب جريمته سارع إلى مصر، وهي وسيط التهدئة بينه وبين غزة، والى قطر، مهدداً المقاومة إذا قامت بالرد، ثم وبعد أن ضبطت المقاومة نفسها، لأنها لا تريد أن تنجر لما تسعى إليه إسرائيل بعودة المواجهة بينهما إلى جبهة غزة، ولتأخذ وقتاً للإعداد لعملية موجعة ضد العدو في الضفة أو حتى داخل الخط الأخضر، لم يتوقف نتنياهو وتابع غاراته على غزة، ولم يتوقف عند حدود عملية اغتياله لقادة الجهاد الثلاثة وعائلاتهم، والغارة على غزة بحد ذاتها عدوان خارجي يجب أن يقف المجتمع الدولي ضده، لكن ما يشجع إسرائيل هو أنها تمارس اعتداءات الدولة ضد سورية باستباحة أجوائها وأراضيها دون أن يدينها المجتمع الدولي!