ليست المواجهة، أو الحرب، الجارية، اليوم، بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، الأولى من نوعها، فثمة قبلها مواجهات عديدة، صعبة ومدمرة ودامية، منذ هيمنة حركة حماس على القطاع (2007)، وفرض إسرائيل الحصار عليه، مع ذلك يصرّ الخطاب الفصائلي في غزة على تناسي كل تلك الوقائع، والمآسي التي خلفتها، والترويج لخطابات انتصارية، منتشية بحيازة قدر من القوة العسكرية، مع ادعاءات بفرض معادلات عسكرية وسياسية على إسرائيل، لم يثبت أي منها، أو لم تبال بأي منها.
ثمة مبالغات تكمن خطورتها في إنها تتحول إلى أوهام، من ضمنها التهويل بقوة غزة، في حين أن الواقع يتعلق بمجتمع فلسطيني من مليوني نسمة، يعيش أفراده في بقعة ضيقة من الأرض (360 كم مربع)، وهي أقل من 2 بالمئة من فلسطين التاريخية، وحوالي 6 بالمئة من مساحة الضفة الغربية.
ومعلوم أن غزة تفتقر للموارد، وليست جاذبة للاستثمارات، ومعظم سكانها يعانون من الفقر، ومن البطالة، إضافة إلى أن هذه المنطقة تعتمد على الموارد المتأتية من الخارج (المواد التموينية والطبية، والكهرباء، والطاقة)، وضمنها من إسرائيل، وحتى أن بضعة ألوف من سكانها يعملون في قطاعات الاقتصاد في إسرائيل، يفاقم من كل ذلك أن غزة هي بمثابة سجن كبير لسكانها، بعد أن فرض الحصار الإسرائيلي عليها منذ 16 عاما؛ مع الإبقاء على معابر تنفيس (رفح مع مصر، وإيريز وكرم أبو سالم مع إسرائيل).
والفكرة هنا أن معظم الذين يتحدثون عن غزة لا يرون فيه إلا قاعدة عسكرية للمقاومة، أو قاعدة حربية لإطلاق الصواريخ، وكأنه لا يوجد بشر، من أطفال ونساء وشباب وشيوخ، من لحم ودم وأعصاب، بحاجة إلى كل مقومات العيش، والأمان، للاستمرار والتطور كمجتمع، وذلك مع سعيهم للمقاومة والتحرر من الاحتلال، دون أن يؤدي ذلك إلى استنزافهم، وتهديد وجودهم.
ثمة مبالغة أخرى تكمن في التضخيم من قوة، وقدرة، المقاومة، وصواريخها كأنه ليس لدينا تجارب من قبل، أو كأنها كانت تجارب ناجحة، ونجم عنها فرض تنازلات من قبل إسرائيل، على غرار الانتصارات العربية. فوق ذلك فإن مبالغة كهذه تروج لانطباع خاطئ مفاده أن الفلسطينيين، تحرروا من إسرائيل وبات لديهم دولة، بدليل إنهم يملكون جيشا يوازي قوة الجيش الإسرائيلي، وهذه فكرة تنم عن جهالة، وانفصام عن الواقع، والأخطر من ذلك إنها تودي إلى المهالك، في إطلاق يد إسرائيل للبطش بالفلسطينيين، وتدمير عمرانهم، وضمنه دعم روايتها عن الخطر الذي يتهددها، وإنها مجرد تدافع عن نفسها، ولجهة زجّ الفلسطينيين في غزة في معركة تفوق قدرتهم على التحمل، وتستنزفهم، بدل أن تستنزف المقاومة عدوها، ويأتي ضمن ذلك الحديث عن وجود مضادات جوية لدى الفصائل تتصدى للطائرات الإسرائيلية، وعن امتلاكها صواريخ تهدد تل أبيب، علما أن كل تلك الصواريخ بالكاد حققت خسائر بشرية أو عمرانية لإسرائيل، وعلما أن بضع عمليات فدائية لشباب أفراد، غير منتمين لأي فصيل، كبدت إسرائيل، في العام الماضي، خسائر بشرية أكثر من كل إطلاقات الصواريخ خلال كل الحروب التي خاضتها الفصائل في غزة.
لا علاقة هنا لمسألتين، أولهما، السؤال من الذي بدأ الحرب، أو المواجهة، فسؤال كهذا لا معنى له، لأن إسرائيل هي سبب نكبة الفلسطينيين، وهي التي تحتل أراضيهم، وتصادر ممتلكاتهم، وتمعن في وأد حقوقهم، وتعتقلهم وتدمر بيوتهم في أراضيهم، لكن مسؤولية فصائل المقاومة هنا هو وقوعها في فخ إسرائيل التي تستدرجها دوما لمربع الصراع العسكري، الذي تتفوق فيه، والذي يمكنها من إمعان القتل والتدمير في غزة، لإضعاف الفلسطينيين فيها وإخضاعهم لإملاءاتها، ضمن النهج الإسرائيلي العام في إضعاف الشعب الفلسطيني وكسر إرادته وفرض إملاءاتها عليه.
المسألة الثانية، تتعلق بسؤال المقاومة، فمع كل الاحترام والتقدير للبطولات والتضحيات، فإن فعل المقاومة لا يمكن اختصاره بالعمل المسلح، ولا بالحرب الصاروخية، كما لا يمكن احتكاره من قبل مجموعات عسكرية، فهي قبل كل شيء، وأي شيء، فعل شعبي، أو مجتمعي، ودون ذلك تغدو المقاومة مجرد ميليشيا، وسلطة أخرى، بخاصة إذا كانت تعتمد في مواردها على الخارج، فكيف إذا باتت سلطة حقا في إقليمها على شعبها.
والفكرة الأساسية هنا أنه يجب إخراج المقاومة، كفعل سياسي لبشر معينين، مع أهواء محددة وتجارب ومعارف متفاوتة وانحيازات أيديولوجية وسياسية، من دائرة القداسة، وإخضاعها للفحص والنقد والمساءلة، لاسيما أننا نتحدث عن تجربة فلسطينية عمرها 58 عاما، وما زالت تلك التجربة تفتقد لاستراتيجية عسكرية واضحة.
هكذا فإن البعض، في سياق حماسه، وأوهامه، ورغباته، وعواطفه، يحمل شعبنا في غزة، فوق ما يحتمله، بظنه أن بإمكان غزة تحرير فلسطين، أو بإمكانها دحر الاحتلال من الضفة والقطاع، في حين أن الأمر يقتصر على مجرد مناوشات، أو تبادل قصف صاروخي، فلا إسرائيل تريد دخول غزة، ولا فصائل المقاومة تستطيع أن تحرر شبرا بعد غزة.
الأهم من كل ذلك أن كل الفصائل في كل الحروب السابقة، كانت تضع شروطا على الهدنة مع إسرائيل، وتتحدث بصوت عال عن انتصاراتها، لكن في النتيجة، وبعد توقف الحرب، وانجلاء الأخبار عن عدد الضحايا، وعن الخسائر البشرية والمادية، يبقى الواقع كما هو، دون أي جديد، رغم كل الأحاديث عن وحدة الساحات، وتوازن الردع أو الرعب، وقواعد الاشتباك الجديدة، لكنه حديث في واد والواقع في واد آخر، خصوصا واقع الفلسطينيين البائس في قطاع غزة، الذين يفقدون في كل عام عشرات من شبابهم في البحر في محاولاتهم اليائسة للهجرة، أو الذين ينشدون العمل في إسرائيل لتأمين قوت عيالهم.
واقع غزة أكثر تعقيدا، من مجرد الحديث عنه بالعواطف، والخطابات الحماسية، وشعب غزة الصابر والصامد والشجاع والمقاوم، هو بحاجة إلى التفكير في أحواله بطريقة عقلانية وواقعية وإنسانية، مع خطاب التحرر، فذلك ما يمكنه من مواصلة العيش مع الصمود والمقاومة.