بحنكته السياسية وبراعته في ممارسة السلطة أكثر من 20 عاماً، تمكّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الفوز بولاية جديدة لخمسة أعوام، متقدماً على منافسه كمال أوغلو الذي رفع شعارات رنّانة وطرح برنامجاً سياسياً واقتصادياً طموحاً كان يمكن له الإطاحة بأردوغان لولا دراية الأخير بتفاصيل البيت الداخلي التركي.
أردوغان الذي انتخب رئيساً لبلدية اسطنبول في آذار 1994، حصل على تصفيق وإعجاب الأتراك الذين شاهدوا التغيرات الكبرى التي فعلها لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمدينة، ونتيجة الثناء هذا مع العمل السياسي وتأسيس حزب العدالة والتنمية قفز إلى منصب رئاسة الوزراء ثم الرئاسة التركية.
ثمة أسباب جعلت الناخب التركي يصوت مرةً أخرى لأردوغان، أولها وأهمها أن الأتراك ربما يعرفون رئيسهم عن قرب واختبروه طوال السنوات الماضية، ولا يريدون اختبار رئيس جديد قد يأخذهم إلى أزمات هم في غنى عنها.
مع ما يسمى "الربيع العربي" الذي أنتج تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية كارثية على دول عربية مجاورة لتركيا، قد يكون ذلك أثّر حقيقةً على مزاج الناخب التركي الذي يرى في أردوغان رئيساً مجرباً أفضل من رئيس جديد مجهول.
السبب الثاني متصل بقواعد اللعبة الداخلية في البيت التركي، إذ تحالف أردوغان مع المعارضة القومية والمحافظة، ووضع يده بيد الأحزاب الصغيرة التي لها تأثير في الأقاليم التركية، وحصل على دعم المرشح السابق سنان أوغان الذي حلّ بالمركز الثالث في الانتخابات الرئاسية بنسختها الأولى.
كذلك على المستوى الداخلي، خاطب أردوغان مشاعر الأتراك حينما جاء على موضوع التضخم الاقتصادي وتدهور العملة المحلية وتآكل القيمة الشرائية، إذ تعهد بالعمل على كبح جماح التضخم ومساعدة الأسر المتوسطة والفقيرة من التغلب على الفقر.
وتحدث عن تأمين احتياجات السكان من الغاز الطبيعي لمدة عام، واستطاع الحصول على أصوات الناخبين في المناطق التي تضررت بفعل زلزالَي جنوب تركيا الذين وقعا في شباط 2023، ودفعا حكومة أردوغان لتقديم مساعدات مستعجلة للمنكوبين وتعويض خسائرهم ببناء مساكن جديدة خلال عام واحد.
ملف اللاجئين حظي باهتمام الناخب التركي الذي يرى في وجود أكثر من ثلاثة ملايين سوري ومئات الآلاف من اللاجئين الأفغان والعرب، تهديدا مباشرا للاقتصاد التركي وتأثيرا على خارطة العمالة المحلية، ولذلك اتفق زعيم تحالف "الجمهور" أردوغان مع غريمه زعيم تحالف "الأمة" كمال أوغلو على إعادة اللاجئين السوريين لكن كل على طريقته.
خلال مختلف حملاته الانتخابية تعهد أوغلو بإعادة اللاجئين السوريين في غضون عامين، بينما يرى أردوغان أن عودة اللاجئين مرتبطة بتطور المسار السياسي مع النظام السوري وإيجاد تمويل دولي لبناء مساكن جديدة لهم في شمال سورية.
على الصعيد الإقليمي والدولي، لم تكن علاقة تركيا بالدول العربية والغربية "سمن على عسل"، إذ اصطدم الرئيس المنتخب مع الغرب بسبب رفض الأخير انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، واصطدم أيضاً مع الولايات المتحدة على خلفية محاولة الانقلاب التركي الذي دعمته واشنطن ودول كثيرة عام 2016.
لكن يلحظ أن هناك تحولاً كبيراً في السياسة التركية نحو تصفير الخلافات خصوصاً مع الدول العربية، وهذا التحول خدم أردوغان كثيراً في معركته الانتخابية، ومن المحتمل أن تتحسن العلاقات التركية- العربية خلال الأعوام المقبلة.
أمام الرئيس التركي ملفات مهمة ستضعه على المحك في وجه ناخبيه، من بينها التضخم الاقتصادي الذي يهدد تقدم الدولة التركية كقوة سياسية واقتصادية صاعدة، وعلى الأغلب أن يضع أردوغان يده بيد العرب لتأمين تدفق الصادرات التركية بسلاسة ودون عوائق.
أيضاً سيواصل تحسين علاقته مع روسيا للحصول على النفط والغاز بأسعار تفضيلية، وسيستفيد من التوسط في الصراع بين موسكو وكييف للتقرب من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نحو إيجاد علاقة متوازنة تحقق له المنفعة الاقتصادية بالدرجة الأولى.
وفي الملف السوري سيعمل مع الدول المؤثرة على الساحة السورية لإيجاد تقارب ومصالحة مع الرئيس بشار الأسد، والأهم أنه سيضغط باتجاه تحقيق تقدم في موضوع إعادة الإعمار خصوصاً في المناطق السورية المنكوبة شمالاً، بهدف إعادة اللاجئين المقيمين في تركيا إلى ديارهم.
أكثر ما يشغل الرئيس المنتخب وحكومته حالياً هو الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد، ولذلك ستكون الأولوية في المرحلة المقبلة متركزة في ضبط سعر صرف العملة التركية مقابل الدولار وجذب الاستثمارات الأجنبية والعربية ودعم الصادرات وتقليل نسب البطالة، ومفتاح حل هذه المعضلة مرتبط بشكل أو بآخر بالبيئة الداخلية التركية وتفاعلاتها الإقليمية والدولية.