في ذكرى رحيل الشهيد فيصل المقدسيون في مواجهة التذويب والأسرلة

تنزيل (16).jpg
حجم الخط

بقلم المحامي زياد أبو زياد

 

أحيا المقدسيون قبل أيام الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الشهيد فيصل الحسيني أمير القدس بدون منازع وفارسها الذي ترجل قبل الأوان.


وفي ذكرى رحيل فيصل، وفي ظل الفراغ الكبير الذي تركه وراءه لأنه لم يكن موظفا ً عند أحد، ولم يكن يستمد صلاحياته من أحد ولا من منصب أو موقع رسمي، وإنما كان قائدا ً بالفطرة وعاشقا ً للقدس مارس عشقه لها بألم العاشق ولهفة الحبيب ونسك المعتكف في محراب العشاق وسخاء الزاهد.


في ذكرى رحيل فيصل يمكن قول الكثير، ولكنني هنا لن أتباكى ولن آتي على محاسن ومناقب الفقيد لأنه حي في وجدان المقدسيين، والرثاء لا يجوز في حق الأحياء.


تجمع أصدقاء الشهيد وأحباؤه، ومع أني من أقرب أصدقائه ومن أكثر المحبين له والمفتقدين غيابه، إلا أنني لم أتمكن من أن أكون معهم لأسباب خارجة عن ارادتي. تجمعوا بعدد متواضع ومعهم صور فيصل وأعلام فلسطين ليعلقوها على بوابة بيت الشرق الذي استطاع فيصل أن يعيد إليه رونقه الوطني المقدسي، بعد أن تحول بعد عام 1967 الى فندق بيت الشرق. فقد بناه مفتي القدس في النصف الأول من القرن الماضي الشيخ إسماعيل موسى الحسيني وشهد زيارات شخصيات عالمية كالإمبراطور الألماني ولهلم والإمبراطور الاثيوبي هيلا سيلاسي وغيرهم وافتتح فيه بيت عزاء الراحل الشريف حسين.


استطاع فيصل أن يعيد له مكانته من فندق الى رمز شامخ للوطنية الفلسطينية وأن يجعل منه بؤرة للعمل الوطني، وقبلة للزوار السياسيين، فاستضاف فيه رؤساء وزارات ووزراء خارجية وكبار المسؤولين والوفود من العديد من دول العالم الذين كانوا يأتون لبيت الشرق باعتباره مقرا ً لمنظمة التحرير الفلسطينية في قلب القدس وعنوانا ً وطنيا ً لفلسطين، وكان لي شرف اصطحاب فيصل في هذه الاجتماعات أو أن أقوم مقامه بتكليف منه عند اضطراره للغياب في الخارج، مع مجموعة من أبناء القدس والضفة والقطاع تمثل كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، اصطلح على تسميتها بمجموعة بيت الشرق بقيادة فيصل الحسيني وشكلت في وقت ما كابوسا ً للبعض ممن خشوا أن تتحول الى قيادة بديلة، مع أنها دون استثناء كانت تدين بالولاء المطلق لقيادة م ت ف ، ورفضت بشكل قطعي كل العروض والاغراءات مقابل أن تخرج عن خط القيادة في تونس.


تجمع أصدقاء فيصل لإحياء ذكراه ولربما لم يكونوا يعرفون بأن صورة فيصل ما زالت تُشكل كابوسا ً يُقض مضاجع الاحتلال إذ لم يكادوا أن يتجمعوا هناك حتى داهمتهم شرطة الاحتلال وانتزعت الصور والأعلام وفرقتهم بالقوة من أمام بوابة بيت الشرق المغلق بأمر عسكري من الاحتلال منذ آب 2001 أي بعد رحيل الشهيد فيصل بأقل من ثلاثة أشهر. وما زالت أوامر الإغلاق بشأنه وبشأن العديد من المؤسسات المقدسية المغلقة بأوامر عسكرية تتجدد باستمرار كل ستة أشهر، وتحول اغلاقها الى أمر واقع.


انتزاع صور فيصل والأعلام الفلسطينية هو جزء من السياسة الإسرائيلية الممنهجة لحصار القدس وطمس هويتها الوطنية ومنع ظهور أي نشاط سياسي فيها. ولم تقتصر هذه السياسة الإسرائيلية على منع تطور الحياة السياسية بالقدس بل امتدت لتشمل الحياة والأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية والاقتصادية بحجة أنها تتم بتنسيق مع السلطة الفلسطينية أو بتمويل منها وهذا محض افتراء. فالهدف من هذه السياسة الإسرائيلية هو محاربة وتمزيق النسيج الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بالقدس وتذويب الهوية الفلسطينية فيها على طريق أسرلة المجتمع والمؤسسات والحياة بالقدس.


ولا شك بأن الحصار الذي فرضته على القدس منذ آذار 1993 وجدار الفصل العنصري الذي أقامته حولها منذ عام 2002 واستكملت بناءه حتى عام 2006 قد أدى مع الوقت الى فصل القدس عن عمقها الفلسطيني من كافة النواحي وأدى تدريجيا ً الى تحولها الى ما هو أشبه بالمدن الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1948 وأصبحت الفجوة بين القدس وسائر الأراضي الفلسطينية تتعمق باستمرار.


ولا شك بأن موضوع التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية في القدس تتطلب دراسة معمقة. فبالرغم من السياسة الإسرائيلية القاسية والحملة الشرسة ضد الهوية والوجود الفلسطيني بالقدس، وبالرغم من عزلة يد السلطة الفلسطينية وعجزها عن أن تكون على مستوى التحديات التي يواجهها المقدسيون، وتوقعاتهم التي تعجز السلطة عن تلبيتها إلا أن إسرائيل فشلت في قتل الروح المعنوية للمقدسيين أو شراء انتمائهم. وبالرغم من بعض المظاهر السلبية التي يمكن أن يشاهدها المرء بين الحين والآخر في القدس وخاصة ما حدث في بعض المدارس المقدسية مؤخرا ً إلا أنني أستطيع أن أقول وبكل ثقة بأن هناك اليوم أجيالا جديدة بالقدس سبقت القيادة السياسية للشعب الفلسطيني وتُشكل موقعا ً متقدما ً في مواجهة الاحتلال بجرأة لا نراها إلا بالقدس.