المنشد الشعبي الفلسطيني أبو عرب أوجاع النكبة وبكائيات اللحن والموَّال

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم د.أحمد يوسف

 

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي تمَّ تأسيس "الاتحاد الإسلامي لفلسطين" بمدينة شيكاغو الأمريكية، على يد مجموعة من النشطاء وأبناء الجالية المسلمة بالمدينة، والتي تقطنها نسبة عالية من فلسطيني الشتات. أتاح هذا التأسيس للاتحاد أن تتزايد الأنشطة والفعاليات ذات الطابع الوطني الفلسطيني، والاتفاق على عقد مؤتمرٍ سنوي في شهر ديسمبر خلال فترة أعياد الكريسماس.


كان معظم المشاركين في المؤتمر من الطلاب وأبناء الجالية الفلسطينية في المدينة ومن حولها من الولايات، وكانت أيام المؤتمر الثلاثة تتفاوت فعالياتها بين المحاضرات ذات الطابع السياسي المتعلق بتطورات القضية الفلسطينية، والتسوَّق، حيث المحلات المؤقتة التي تبيع كلَّ شيء فلسطيني من مأكولات وأزياء شعبية وأشرطة فنيَّة لأشهر المنشدين في الوطن والشتات.


أهداني أحد الأصدقاء مجموعة من 19 شريطاً داخل علبة أنيقة، وقال لي: اسمعها وستدعو لي، إنها مجموعة من الأناشيد والألحان والمواويل للفنان "أبو عرب".


لم يسبق لي السماع بهذا الاسم، فنحن "المُتدينين من الإسلاميين" كنَّا نرى في ذلك الفن "رجسٌ من عمل الشيطان"!! تقبلت الهدية بعد تردد، وأخذت استمع إلى تلك الأشرطة وحيداً وحين توفر الوقت وخلوة المكان.

 

 لم يطل الوقت حتى استمتعت بسماعها جميعاً، وقد أمدتني في غربتي بشحنة عاطفية تشربت بها كلَّ جوانحي، وأصبحت مدمناً لمثل هذا النوع من الأناشيد الألحان الوطنية، وخاصة عندما أسافر بين الولايات لساعات طويلة، حيث تكون أنيس رحلتي مع أشرطة أخرى من القرآن الكريم.


"أبو عرب" كان لاجئاً من قرية الشجرة، قضاء طبرية في فلسطين، أبدع في عرض مأساة النكبة والقضية شعراً وإنشاداً، وجعلها تسكن وتتجذر وجدانياً في قلب كلِّ واحدٍ منَّا في الوطن والشتات، وقد طاف الشرق والغرب يشدو بألحانه ومواويله بين التجمعات والجاليات الفلسطينية، مُذكِّراً لهم بالوطن السليب، وعمق الشوق له والحنين.


قُتِل والد "أبو عرب" عام 1948، خلال اجتياح الميليشيات الصهيونية لفلسطين، وقُتِل ولده عام 1982، خلال اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان. وشهد في طفولته انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني، والتي كرَّس لها جده أشعاره كافة للإشادة بالثورة وتحريض الثوار لمقاتلة المحتل البريطاني.


أسس "أبو عرب" فرقته الأولى في الأردن سنة 1980، وسميت بـ"فرقة فلسطين للتراث الشعبي"، وكانت تتألف من 14 فناناً، وبعد مقتل رسام الكاريكاتير الرائع ناجي العلي، وهو أحد أقارب "أبو عرب"، تمَّ تغيير اسم الفرقة إلى "فرقة ناجي العلي".


ألّف ولحَّن وغنَّي كثيراً من الأغاني الوطنية، ومن أشهرها: من سجن عكا، الشهيد، دلعونا، يا بلادي، يا موج البحر، هدِّي يا بحر هدِّي، يا ظريف الطول ...الخ
"أبو عرب" هو شاعر الثورة الفلسطينية، وشاعر المخيمات، والذاكرة الحيِّة للتراث الغنائي الفلسطيني، وصوت الثورة، ومطرب الثورة الأول، والمقاوم بالأغنية، وأسماء أخرى كثيرة أطلقها الفلسطينيون عليه، وهو بحق ذاكرة وطن صاغها في كلمات ونغم حزين، سيعيش فينا حتى يتحرر الوطن وتعود فلسطين.


يعرفه أبناء الحركة الوطنية من خلال مخزون تراثي غنائي ضخم ينطق بلسان الوجدان الشعبي الفلسطيني، بلغة اشتق مفرداتها من ذاكرته في الوطن والنكبة والمخيم والمقاومة.. أجيالٌ بأكملها حفظت أغانيه التي ساهمت في غرس بذور الأمل، ورسمت صورة جميلة للفدائي الفلسطيني، وخلَّدت ذكر الشهيد، وأشادت بصمود الأسير.. يعرفه الفلسطينيون بغنائه للعودة والتحرير، ورفضه المساومة على الحقوق والثوابت.. كان الرجل بحق مستودع ذاكرة تشدَّك بعاطفة قوية إلى فلسطين؛ الأرض والشجر والإنسان والثمر.


في عام 2006، ذهبت في أول زيارة لي إلى سوريا كمستشار لرئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية، وكانت تشدني زيارة التجمعات الفلسطينية هناك، وخاصة مخيم اليرموك في ضواحي العاصمة دمشق، حيث عبق التاريخ والوجوه التي تنتظر وتحلم بالعودة إلى أرض الآباء والأجداد. خلال التجوال في أسواق المخيم، كنت تجد كلَّ شيء له علاقة بالتراث الفلسطيني، من تُحفٍ وكوفيات ومداليات وأزياء وأشرطة أناشيد تراثية، وكنت أتوقف لشراء بعضٍ منها. كان المنشد "أبو عرب" هو الأحب إلى مسامعي في مواويله وكلماته، التي تأخذك إلى الماضي البعيد وأوجاع الغياب عن الوطن، وتجعلك تشعر بالارتياح حتى وإن انسابت بعض الدموع من عينيك.


أتذكر أنني في نهاية التسعينيات، رحلت من مدينة شيكاغو إلى العاصمة واشنطن، وكان طريق السفر طويلاً حوالي 12 ساعة، وكنت وحدي من يقود الحافلة، والشيء الذي كان أنيسي طوال تلك الرحلة هو تلك الأناشيد للفنان المبدع "أبو عرب". في الحقيقة، كنت في غربتي كلما شدني الشوق والحنين للأهل والوطن أجلس في البيت منفرداً للاستماع إليه.


كنت أتابع جديد أشرطته من حين لآخر، إلى أن جاءت الفرصة في تلك الرحلة إلى سوريا، حيث شددت الرحال من دمشق إلى حمص وحلب. في مدينة حمص، التقينا ليلاً في بيت أحد وجهاء المدينة من اللاجئين الفلسطينيين، وكان في استقبالنا مجموعة من الشباب المقيمين بالمدينة، وتمَّ دعوة المنشد "أبو عرب" للعشاء معنا ومشاركتنا السهرة ببعض مواويله في تلك الليلة.


كانت سهرة ممتعة بمن حضرها من الإخوة الفلسطينيين في تلك المنطقة، وكانت فرصة للتعارف وتبادل المواجع والهموم، حيث تحدثت حول الحكومة وأوضاعنا السياسية المتوترة والعلاقة مع سوريا وملفات أخرى عربية ودولية. ومع انتهاء الفقرة التي قدَّمت بها كلمتي السياسية كان العشاء وحفلة السمر مع المنشد أبو عرب، والذي أمتعنا بمواويله القديمة والجديدة، وأذهب عنَّا بكلماته الرائعة الكثير من الحزن، وخفف عنَّا وعثاء السفر.


وبعد منتصف الليل، أكملنا زيارتنا لمدينة حلب، حيث تجولنا بالسيارة في بعضٍ من أحيائها وشوارعها.
وصلنا إلى دمشق قرب الفجر، وفي منطقة "المهاجرين" دخلنا أحد الشوارع بالخطأ، لنكتشف بعدما أحاطت بنا البنادق من كلِّ اتجاه أننا في المربع الأمني لمنزل الرئيس بشار الأسد!! اعتذر السائق لعدم معرفته بالمنطقة، ولولا ما نحمله من جوازات دبلوماسية وسيارة حكومية خاصة لكان المقام قد انتهى بنا في أحد المعتقلات، وأخذنا حقنا من الضيافة التي تقدمها عادة الأجهزة الأمنية لكلِّ من يقع تحت أيديها بذنبٍ أو غير ذنب.
مات إبراهيم صالح المعروف بـ"أبو عرب"، ولكن تراثه هو لحن الأبدية والخلود الوطني لأجيالنا، ولكلِّ من يأتي بعدنا من أبناء فلسطين.


أبو عرب أيها البلبل الشادي ستعيش معنا في كلِّ مناسباتنا الوطنية، وسيبقى هذا التراث العذب من الألحان والأناشيد والمواويل وثيقة تاريخية بعروبة هذه الأرض، وأن مدنها وقراها وسهولها ووديانها وجبالها وهضابها التي أوردتها صيغاً راقية من الألحان هي أحد أبرز الدلائل على أن أرض فلسطين ستبقى لأهلها، ولا بدَّ أن تعود لهم يوماً ما، ككلِّ غريب أبعدته يدُ الغدر والعدوان ليزرعها من جديد، ويزدهر على ثراها المبارك الزعتر والزيتون وما طاب من ثمار التين والرمان.


سيبقى "أبو عرب" في الذاكرة الفلسطينية أيقونة الإنشاد الفلسطيني، وسيعيش فينا يروي عطش الغربة والحنين إلى الوطن.. توفي أبو عرب في مدينة حمص السورية، بتاريخ 2 مارس 2014، وذلك عن عمر ناهز 83 عاماً.
رحمه الله وتقبله في الصالحين من عباده.. اللهم آمين.