لغز الخروج من الرأس، والـكـتــابـة بالجـســد...!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

وقفتنا، اليوم، عند كلام لأدونيس في أيامه السعودية: "لو أخذنا جيل الحداثة الأوّل من السيّاب مروراً بنزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس وغيرهم، ثم قارّنا إنتاجه بما تكتب المرأة العربية، فأنا أشهد بأن ما تكتبه المرأة العربية اليوم هو أكثر أهمية ممّا كتبناه".
لا بأس. يحق لشاعر كبير، متكئاً على رصيده الرمزي، إصدار أحكام عامة وثيقة الصلة بالشعر. ولكن، نلاحظ أن افتقارها إلى المنطق يبطل فعالية الرصيد. فإذا توفّرت لديه في كفة الميزان الأولى وسيلة إيضاح تجلّت في ثلاثة أسماء (وغيرهم)، ينبغي التمثيل للمرأة العربية بعدد مشابه، أو وسيلة إيضاح واحدة على الأقل (فلانة وغيرها) لتحرير الكفة الثانية من شبهة الكلام المُرسل، وتمكين السامع، أو القارئ، من العثور على ما يُسوّغ حكماً كهذا، سواء أكان له، أم عليه.
ومع ذلك، إضافة إلى الخلل الدلالي بين كفتين غير متكافئتين من حيث التخصيص والتعميم، ثمة مشكلة في تعبير جيل "الحداثة الأوّل" لا بمَنْ حضر فيه وحسب، ولكن بمَنْ غاب عنه، أيضاً. فمحمود درويش (1941) لا ينتمي إلى جيل الحداثة الأوّل (رغم فخامة مُفترضة لعضوية جيل كهذا) ويصعب، في الواقع، الكلام عن جيل "الحداثة" الأوّل دون التوقّف عند خليل حاوي (1919) ونازك الملائكة (1923) ونزار قباني (1923) والسيّاب (1926) ولكل واحد من هؤلاء قاموسه، وهمومه، وجمالياته.
ومع هذا كله في البال ينبغي القول: إن "الحداثة" حداثات. فالأقرب إلى الحداثة، بمفهوم modernism الأوروبي، الذي فسّرنا دلالته في معالجات سبقت، هو خليل حاوي، وهو بهذا المعنى سابق لأدونيس (1930). ولا معنى، في الواقع، أيضاً، للكلام عن "حداثة" في حال غابت أسماء من وزن سعدي يوسف (1934) ومظفر النوّاب (1934) وأنسي الحاج (1937)، مع التذكير باختلافات بنيوية بين هؤلاء وكذلك بين المذكورين في كلام أدونيس عن "الجيل الأوّل" المتوهّم للحداثة. لا أحد يشبه الآخر.
مهما يكن من أمر، وما زلنا مع أدونيس في أيامه السعودية. فلنتأمل العبارة التالية: "نحن اليوم لا نزال نكتب برأسنا، فنحن نكتب شعراً ثقافياً، أما عوالم الجسد والمخيّلة والانفعالات والأحلام والغضب، فإنها لم تُكتب بعد".
وقد نعثر، هنا، على ما يُفسّر عبارته الأولى، التي افتتحنا بها هذه المعالجة، ويُسوّغ المقارنة بين جيل "الحداثة الأوّل" و"المرأة العربية"، التي أفتى لها، دون تمثيل أو تدليل، بتفوّق ما تكتب على جيله "الذي يكتب برأسه". مع ملاحظة أن إنكار وجود "عوالم الجسد والمخيّلة والانفعالات والأحلام والغضب" في قصائد السيّاب، وقباني، ودرويش (وحتى أدونيس نفسه، إذا شئت) يبدو جنوحاً غير محمود.
والمفارقة، في هذا الشأن، إذا استخدمنا الشعرية الأوروبية كمقياس، أن الشاعر الغربي يكتب برأسه، فعلاً، بينما يهيم الشاعر العربي في وادي عبقر. وهذا ناجم عن سوء فهم، لا يزول ولا يدول، منذ الترجمة الأولى المغلوطة في العصر العباسي الأوّل لكتاب "فن الشعر" لأرسطو وحتى يوم الناس هذا. وقد حاول محمود درويش، في مناسبات مختلفة، تبديد صورة وهمية شائعة "للشاعر" والتذكير بحقائق من نوع أن الشعر "مهنة" و"صنعة أيضاً"، وفي كليهما ما ينطوي على دلالة الحرص والعمل الدؤوب على صقل الموهبة، لأن الشعر لا يهبط من السماء.
على أي حال، من الواضح أن تفوّق "المرأة العربية" احتل مكانة مركزية في كلام أدونيس عن الشعر في أيامه السعودية. وإذا سألنا عن مسوّغاته، يقول لنا بمفرداته: "لأنها بدأت تخرج من رأسها الثقافي، وتكتب جسدها العميق" (fair enough).
ولكن أما من دليل، أو وسيلة إيضاح؟ كيف تخرج المرأة من رأسها، وتكتب جسدها؟ ألا يستدعي هذا تحرير الرأس والجسد في آن؟ ألا يعني تحرير الرأس والجسد المساواة المطلقة، والملكية الحصرية للاثنين؟ ومَنْ قال إن للنساء العربيات رأساً ثقافياً واحداً بصرف النظر عن الجغرافيا، والخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية؟
المهم، وبقدر ما يتعلّق الأمر بعموميات أدونيس الملتبسة، عن خروج المرأة من "الرأس الثقافي" و"الكتابة بالجسد" ثمة ما يبرر استحضار المشهد التالي خلال حضوره، في أيامه السعودية، حفلاً لتشجيع الناس على القراءة بعنوان "أَقرأ":
نرى في شريط الفيديو ثلاثة ذكور على المسرح، إضافة إلى "عريف الحفل"، الذي يقرأ اسم الفائزة الأولى (ويبدو من تركيز الكاميرا عليها أن فوزها كان معروفاً قبل إعلان الأسماء) ونراها تنهض من مقعدها، وتصعد لاستلام الجائزة.
المرأة التي تستلم الجائزة، لا تصافح أحداً من الواقفين هناك. لا يخفى على عدد من الحاضرين، على الأقل، وأدونيس على الأرجح، أن الحدث الأكثر عمومية وعفوية، في أربعة أركان الكون، يتمثل في مصافحة الفائز بجائزة من نوع ما للشخص الذي يُسلّمه الجائزة. ومع ذلك، المصافحة لم تحدث، ولا يبدو أن في عدم حدوثها ما يُحرض صاحب الكلام عن "الخروج من الرأس" و"الكتابة بالجسد" على ضرورة التروي، قليلاً، أو حتى الاحتكام إلى منطق النسبية، والخصوصيات الثقافية، قبل المجازفة بخلاصات وعموميات كهذه.
فرضيتي الرئيسة، في هذا الشأن، أن في كل ما تقدّم ما يصلح للتدليل على معنى ودلالة ما وصفناه في معالجات سبقت بالكلام الفاضي من ناحية، وأن ما وسمه من التباس، وعموميات، يصلح للتدليل على النهايات المُحزنة "للحداثة البيروتية" من ناحية ثانية.
فاصل ونواصل.