الرّوح الرّوسية الميتة وصدمة «الماتشو»

حجم الخط

بقلم وسام سعادة

«الشعب الروسيّ اشتراكي بالغريزة وثوريّ بالفطرة». كلمات ميخائيل باكونين (1814 ـ 1876) أحد أبرز وجوه الحركة الثورية الروسية والأوروبية في القرن التاسع عشر، والمنظّر الأبرز للفوضوية أو اللاسلطويّة، والندّ اللدود لكارل ماركس في زمن «الأممية الأولى» يصعب تلمّسها في حال الرّوس اليوم.
لكن الرّوح الروسيّة المتمرّدة التي قارعت الإمبراطورية القيصرية إلى أن أطاحت بها، في ثورة فبراير 1917، كان يمكنها أن تزوّد كلمات باكونين هذه برصيد دلالي حقيقي، لمدة غير قصيرة. اذ تمثّلت هذه الرّوح بالنارودنية (الشعبيّة الرّوسيّة) تيارها الأبرز في القرن التاسع عشر، قبل أن تزاحمها الاشتراكية ـ الديموقراطية بفرعيها البلشفي والمنشفي.
وكان النارودنيك يرون في عناصر تأخر روسيا مفاتيح تحررها إن أفلحت الأنتلجنتسيا الثوريّة «في الذهاب للشعب». ذلك من خلال التعويل على المشاعة الريفية والروح التعاونية بين الفلاحين الروس لبناء الاشتراكية دون الحاجة للعروج إلى الرأسمالية.
هذا بخلاف الاشتراكيين – الديمقراطيين الروس، الماركسيين، الذين ساجلوا مطولاً ضد أوهام تفادي الرأسمالية وبناء الاشتراكية الفلاحية لا العمّالية. هذا قبل أن يعود الماركسيّون الروس فينقسموا فيما بينهم، بين فئة (المناشفة) تسلّم بضرورة المرور بحقبة تقودها البرجوازية، على أنقاض الحكم القيصري والعلاقات الإقطاعية، وبين فئة (البلاشفة) التي وإن كانت لا ترى سبيلاً لتفادي الرأسمالية، الا أنها راحت تمنّي النفس بالعروج السريع عليها، وبأن يكون هذا العروج على أية حال تحت قيادة الطبقة العاملة المتحالفة مع الجماهير الفلاحية، لا البرجوازية. وهذا يجعل علاقة النارودنيّة بالبلشفية أكثر تعقيداً من إقامة التضاد على طول الخطّ بينهما.
لقد أثرت الروح التمرّدية الرّوسية تراثاً لا ينتهي من المناقشات والسجالات على امتداد مراحلها، وبين مختلف تجلياتها وتياراتها، قبل أن تتشارك كل تيارات هذه الرّوح التمردية في صناعة ثورة فبراير 1917 ثم تدخل من بعدها، وفي إثر انتفاضة أكتوبر 1917 البلشفية في حرب أهلية فيما بينها، متداخلة مع الحرب الأهلية ضد جنرالات النظام القديم.
صحيح أنّ فئات عديدة داخل الحركة الثورية الروسية لم تكن لتوافق على مقولة باكونين «الشعب الروسي اشتراكي بالغريزة وثوريٍّ بالفطرة» وبالذات البلاشفة الذين كانوا يحملون بقساوة على مظاهر تأخر هذا الشعب في الأرياف، إلا أنّ الحركة الثورية الروسية بالمجمل، بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، أعطت بالفعل دلالة حقّة لكلمات باكونين هذه.
فالوثبات الثورية كانت توقفت في أوروبا الغربية مع سحق كومونة باريس بالحديد والنار أواخر مايو 1871. ولم تُبعَث فكرة «الثورة» في التاريخ العالمي مجدّداً، وعلى نحو مدو، إلا مع ثورة 1905 الشعبية الرّوسية، التي لم تلبث أن امتدت عدواها إلى إيران 1905 والصين 1911 قبل أن تعود فتطيح بعرش آل رومانوف في روسيا نفسها.
لم تكن الرّوح التمرّدية الرّوسيّة على موجة واحدة. لكنها أوجدت نمطاً من الأشخاص يصعب توفّره بهذا الزخم والتصميم. بهذا الجمع بين النظر والعمل. بهذا التأليف المجنون بين «دور الفرد في التاريخ» وبين نوع من النظرة السحرية المطلقة لتاريخ لا يتفردن. بهذا الوصل بين نموذج الصوفي الأرثوذكسيّ الزاهد في عالم الروح، والمُراقِص كشامان سحيق للأرواح الخفية التي تستوطن الأبدان والأمكنة.
في هذه الرّوح التمّردية الرّوسية تجلّت نماذج لا عدّ لها ولا حصر. جد متباينة فيما بينها. منها سيرغي نيتشاييف «العدميّ» الذي ذهب الى أنه على الثوري أن يزيد عذابات شعبه كي يجرّه الى الخروج على الاستبداد، وقد استوحى الروائي فيودور دوستويفسكي رواية «الشياطين» من نموذج نيتشاييف وصحبه، وفي معرض التحامل عليهم. وأيّاً كانت القراءة الممكنة لرواية دوستويفسكي، بين من يراها مشايعة للاستبداد القيصريّ، وبين من يرى فيها تنبؤاً مبكراً بتنبّت التوتاليتاريّة الشيوعيّة على الأرض الرّوسيّة، وبين من بإمكانه إدراجها في سياق الدعاية البوتينية الحالية حيال أي معترض على النظام القائم، إلا أنّها تظهر بشكل أو بآخر، هذا العنصر العدميّ الذي من دونه ما كان مقدّراً للروح الرّوسيّة التمرّدية أن تكون ما كانت عليه من خزّان ثوريّ يعجّ بالأفكار والأخيلة والوجوه والحكايات، في زمن تقوّضت فيه مساحة الحركة الثورية الأوروبية، ولم تكن فيها الحركات التحررية الثورية الكبرى في المستعمرات قد قفزت الى المسرح الأول للأحداث بعد.

بوتين في أول رد له على تمرد فاغنر كان عبّر عن خشيته بأن تعود هذه الروح التمرّدية، فتبعث من جديد، كما في العام 1917. خشية بوتين وحدها من شيء من هذا القبيل لا تكفي للذهاب بعيداً في هذا الرجاء

هذه الرّوح الروسية المتمرّدة هل قضت نحبها مع فظائع الحرب الأهلية الرّوسية 1918-1921؟ هل زُهِقَت يوم قمع ليون تروتسكي بشكل دامي انتفاضة بحارة كرونشتاط؟ أم يوم تمكّن ستالين من تصفية جيل بلشفي بأكمله وصولاً الى اغتيال تروتسكي نفسه؟ هل يمكن احتساب ستالين من خارج هذه الرّوح التمرّدية الرّوسية أساساً؟ هل يمكن القول إن هذه الرّوح تجدّدت مع الحرب الوطنية العظمى ضد الاجتياح النازي؟ أو أنها ازدهرت في موضع آخر، وفي سياق نزع الستالينية، مع أدب ونقاشات مرحلة «ذوبان الثلوج» في أواخر الخمسينيات؟ ألا يمكن عدّ المنشقين السوفيات جزءاً من استمرارية هذه الحركة التمرّدية، الجدلية بامتياز، التي تقفز بشكل مدهش بين نقائضها؟ ألا يمكن اعتبار الحيوية التي عاشها المجتمع السوفياتي مجدداً منتصف الثمانينيات، في أول عهد البيروسترويكا، بمثابة وثبة جديدة لهذه الروح التمردية؟ يصعب، تقريباً يستحيل، كتابة تاريخ لهذه الرّوح التمرّدية الرّوسية التي لعبت الدور الأبرز في التعلّق بروسيا، بتاريخها، وأدبها، ومغامرات الفكر على أرضها، لقرن ونيّف. في المقابل، ما يصعب أقل، هو الإقرار بأنّه منذ زوال الإتحاد السوفياتي يظهر أن الرّوح التمرّدية الرّوسية، بل روح الحياة في المجتمع الرّوسي، ذهبت معه!
ما الذي حلّ في المقابل؟ بدل «المحترف الثوري» حلّ البحث عن «الماتشو» المفتول بعضلاته، والمرتعب في الوقت نفسه إن ذهبت عضلاته هذه أن يُقال على الدنيا السلام! على هذا النحو سعت الدعاية الرسمية لتصوير فلاديمير بوتين، كبطل في الجودو والسباحة والصيد. كذلك فعل رمضان قاديروف في الشيشان. يصارع الحيوانات المفترسة ويرفع أعتى الأثقال. وفي البين بين، يظهر «مفكر» لهذه الحالة، ألكسندر دوغين. هذا لم يرفع أثقالاً ولم يصارع نموراً ولا تسبّح في نهر نصف متجمد. لكنه أفتى عام 2007 بأن الحل للتراجع الديموغرافي في البلاد بأن يستعيد الروس إيمانهم بالإمبراطورية! إمبراطورية تشاد بماذا؟ بالتأمل في الجيوبوليتيك بأسلوب سحري من قبله، وبالتعويل على نماذج «ماتشية» لقيادة المجتمع والدولة. النتيجة كانت، أن هذه النزعة الماتشية وجدت تعبيرها الأمضى في مقاتلي شركة فاغنر. ولعل الصدمة الحقيقية ليوم تمرّد فاغنر يكمن هنا: إنه اليوم الذي تمرّدت فيه النزعة الماتشية على رموز لم تعد توحي بأي ماتشيّة في المجتمع الروسي، بدءاً من فلاديمير بوتين ووزير دفاعه شويغو. بوتين والحال هذه، جهد للانتقال من نموذج «الماتشو» الى نموذج «الأب». لكن هيهات. أن تبيع صورة الماتشو بعد أن تصدّعت وتشتري بها صورة أبويّة فهذه تجارة خائبة. في الوقت نفسه، تمرّد فاغنر لم يحدث إلا في مجتمع اندثرت فيه الروح التمرّدية الروسية منذ ثلاثة عقود. اندثرت فيه الى الدرجة أنه ليس هناك من تمرّد إلا الماتشية ـ الإمتثالية في حركة استدارتها حول نفسها، وضد نفسها. روسيا اليوم تكتشف ما هو أخطر عليها من التعثر في الحرب الأوكرانية. تكتشف أن «الماتشية المترهلة» هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الاجتماع السياسي. منذ سنوات، وبوتين يلتهي بلعبة الدفاع عن القيم العائلية المحافظة في مواجهة «الغرب». لكن هذه السنوات كانت تمر، وتجلب معها المزيد من التصدّع لصورة «الماتشو» الذي أقام عليها بوتين نظامه. هذه الصورة بدأت أواخر العام 1999 بزياراته الميدانية الى غروزني. لكن الصورة منذ عام ونيف هي لرئيس قابع في مكتبه بعيداً عن خطوط الجبهة الأمامية من الدونباس الى خرسون. في الفارق بين الصورتين، نهضت فاغنر وخرجت على مهندسها الأول، وهو بوتين نفسه، ثم انزوت على أعتاب ماتشو آخر، لوكاتشينكو، تاركة المجال لمزيد من التداعيات في مجتمع غادرته الروح التمردية منذ تقود، وتصدّعت فيه في السنوات الأخيرة الأوثان – الأبدان، لعالم «الماتشو».
لكن باكونين كان يقول بأن الشعب الروسي ثوري بالفطرة. أين هي هذه الفطرة؟ مطمورة بركام الزمن السوفياتي؟ اللافت أن بوتين في أول رد له على تمرد فاغنر كان عبّر عن خشيته بأن تعود هذه الروح التمرّدية، فتبعث من جديد، كما في العام 1917. خشية بوتين وحدها من شيء من هذا القبيل لا تكفي للذهاب بعيداً في هذا الرجاء.

كاتب من لبنان