تناقلت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي نبأ مفاده أن السلطة الفلسطينية تدرس إمكانية إعلان افلاسها. ومع أنني لم أستطع تعقب مصدر هذا الخبر الذي نفت صحته مصادر وصفت بأنها فلسطينية رفيعة المستوى، إلا أنني لا أستبعد أن تكون وراءه مصادر إسرائيلية تعمل في اطار خطة ممنهجة للاغتيال المعنوي للسلطة وخلق صورة نمطية لها بأنها عاجزة وغير قادرة على الاستمرار.
لا شك بأن هناك أزمة مالية مستعصية للسلطة منذ عدة سنوات نتيجة سرقة إسرائيل لأموال المقاصة التي تجبيها نيابة عن السلطة على الواردات الفلسطينية عبر الموانئ الإسرائيلية والتي يُفترض أن تحولها للسلطة من جهة، ونتيجة انخفاض الدعم المادي الدولي المقدم للسلطة وخاصة الدعم العربي، إذ توقفت بعض الدول العربية تماما عن الوفاء بالتزاماتها المادية إزاء دعم السلطة، إضافة لما يُشاع عن سوء إدارة مالية وعدم وجود سياسة مالية مبنية على سُلّم أولويات وطنية غير قابل للمساومة.
الوضع عند تأسيس السلطة والوضع اليوم
وعلى أية حال فإن من الغريب استمرار الوضع المالي للسلطة وفق المعطيات الحالية واستمرار الفصل بين الوضع المالي والوضع السياسي وبين الظروف التي كانت سائدة عند إنشاء السلطة وما آلت اليه هذه الظروف بعد ثلاثة عقود من إقامة السلطة.
لقد تأسست السلطة عام 1995 كجسم انتقالي تنتهي مدته مع انتهاء مفاوضات الوضع النهائي وانتهاء عملية نقل مناطق الضفة من التنصيف المؤقت ب و ج لتصبح معظم مناطق السلطة "أ" باستثناء المستوطنات والمواقع العسكرية.
وفي أجواء الانبهار التي رافقت بدء العملية السياسية وانتعاش الآمال بأن المنطقة على الطريق لحل أعقد المشاكل الإقليمية بل والدولية، وأقصد القضية الفلسطينية، بادر المجتمع الدولي وخاصة أوروبا وأمريكا والدول العربية لتقديم الدعم المالي والفني واللوجستي للسلطة لتمكينها من بناء مؤسساتها بصفتها دولة على الطريق.
ورغم فشل العملية السياسية وتوقف تحويل الأراضي للسلطة، فقد ظلت السلطة تمارس عملها كالمتاد وأثبتت صحة مقولة أن "لا شيء دائم أكثر من المؤقت".
واليوم تختلف صورة الواقع القائم على الأرض عما كان عليه عند إقامة السلطة إذ أن الأنشطة الاستيطانية المكثفة لم تترك مكانا على الأرض لإقامة دولة فلسطينية، كما أن عدد المستوطنين والمستوطنات تضاعف عشرات المرات وأصبح الحديث عن إقامة دولة فلسطينية الى جانب إسرائيل على خطوط هدنة 1949، المتعارف عليها باسم حدود عام 1967 أمرا ً مستحيلا اذا استمر هذا الوضع كما هو عليه.
ويرى الكثيرون بأنه في ظل هذه الحقيقة لم يعد هناك مبررا ً لاستمرار التمسك ببقاء السلطة الفلسطينية لأن استمرار وجودها يشكل تضليلا ً للرأي العام العالمي إذ يوحي له وكأن القضية الفلسطينية قد حُلت وأن ما تبقى منها هو أشبه بنزاع حدود، وهذا أمر شائع وطبيعي في العلاقات الدولية.
ويرى أصحاب هذا الرأي بأن صلاحيات السلطة تآكلت ولم يبق لها سوى تحمل أعباء الخدمات اليومية الحياتية للسكان نيابة عن الاحتلال، وأن ما يُقدم للسلطة من دعم مادي من الدول المانحة وما تقوم السلطة بجبايته من ضرائب من المواطنين يُشكل في واقع الأمر دعما ً ماديا ً للاحتلال وتحملا ً للأعباء نيابة عنه. ولذا يجب أن تعلن توقفها عن العمل وتحميل تلك الأعباء للاحتلال.
قد تبدو وجهة النظر هذه منطقية لأول وهلة، ولكن علينا أن نسأل أنفسنا: ما البديل لحل السلطة؟
إسرائيليا ً الجواب موجود، وخطة تصفية السلطة موضوعة موضع التنفيذ الفعلي نحو تصفية السلطة واجتثاث فكرة إقامة دولة فلسطينية من جذورها، كما قال نتنياهو قبل أيام، والاستمرار في مخطط بناء وتوسيع المستوطنات، واستمرار التضييق على الفلسطينيين لإرغامهم على الرحيل. ويمكن القول بأن كل من يدعو الى حل السلطة دون أن تكون لديه خطة بديلة تحقق أماني وتطلعات الشعب الفلسطيني في التحرر من نير الاحتلال إنما هو يتماهى مع المخطط الإسرائيلي ويقدم الخدمة لتسهيل تنفيذه بقصد أو بغير قصد.
جريمة تحويل القضية الوطنية لقضية مالية
وفي نفس الوقت فإن من الجريمة بحق شعبنا أن تتحول قضيته الوطنية التي قدم من أجلها آلاف الشهداء والجرحى والأسرى الى قضية مادية بدون أفق وخطة عمل سياسية ونضالية موضوعة موضع التنفيذ، وأن يقتصر الأمر على البحث داخليا ً عن حل للأزمة المالية، على حساب شعبنا سواء من خلال إنهاكه بالضرائب والتفاخر بارتفاع نسبة الجباية الداخلية، أو التفريط بمصادره الطبيعية التي هي حق له لا يجوز أن يتقاسمها معه أي طرف آخر، ولا يحق لأحد الالتزام باسمه بأية اتفاقيات دولية تتعلق بذلك في غياب مجلس تشريعي منتخب يدقق ويراقب ويسائل.
وعلينا ونحن نتناول ما آل اليه وضع المنظمة والسلطة من هوان وضعف، أن نسأل انفسنا عما أسهمنا به نحن لتحقيق ذلك.
لقد أقيمت منظمة التحرير كعنوان قومي للشعب الفلسطيني، وأدى اعتراف 138 دولة في العالم من أصل 193 دولة أعضاء الأمم المتحدة أي حوالي 71% من المجتمع الدولي، الى تحقيق الاعتراف الدولي بهذا العنوان القومي الذي يُشكل اعترافا ً بالهوية القومية الوطنية للشعب الفلسطيني.
ورغم هذا الإنجاز المعنوي الرائع للشعب الفلسطيني فقد بدأت عملية تهميش للمنظمة وتفريغ لها من مضمونها وانعكس وضعها من أن تكون المظلة التي تقف تحتها السلطة الفلسطينية الى أن أصبحت قيادة السلطة وبحكم الأمر الواقع هي التي تتحكم بالمنظمة. وقد ساعد كون حركة فتح تهيمن على السلطة والمنظمة معا الى تفريغ المنظمة وتمركز كل الصلاحيات بيد شخص واحد هو رئيس المنظمة الذي هو في نفس الوقت رئيس فتح ورئيس السلطة ورئيس كل شيء. فقد سارت كل من المنظمة والسلطة في مسارين متوازيين من الإضعاف والتفريغ من المحتوى الى أن وصلتا الى ما آل اليه الوضع اليوم.
نحن اليوم على مفترق طرق تاريخي، وعلينا أن نقرر في أي اتجاه سنذهب. فإما أن نظل نتمسك بالسلطة التي أصبحت بلا سلطة، ونتمسك بشبح المنظمة التي قمنا نحن بأنفسنا بإضعافها وتقزيم دورها وتحويلها الى اطار للمناسبات فقط، ونظل نركض وراء سراب الحل السياسي والأفق السياسي المزعوم، ونستمر في تقديم الخدمة المجانية للاحتلال سواء على الصعيد الأمني أو صعيد اعفائه من واجباته الدولية بتحمل الأعباء المالية المطلوبة لتحقيق الرفاهية للشعب الواقع للاحتلال، وإما أن نتصدى للهجمة الشرسة التي يقوم بها الاحتلال ضد وجودنا وقضيتنا ونتبنى شعار رفض الاحتلال قولا ً وفعلا الى أن يندحر وينحسر عن أرضنا المحتلة وننعم بالحرية والاستقلال والسيادة على ترابنا الوطني.
نحن بحاجة الى حوار وطني شامل، ومن فوق كل المنابر وبعيدا ً عن القمع الأمني وتكميم الأفواه لكي ننفتح على بعضنا البعض ونتوصل الى حالة من الثقة تؤسس لعمل وطني موحد أشبه بجبهة واحدة عريضة تضم كل ألوان طيف شعبنا.