الحديث يدور عن ترتيبات تم التوصل اليها تقوم على توقف إسرائيل عن العمليات العسكرية بمنطقة جنين مقابل قيام الأجهزة الأمنية بتعزيز وتثبيت وجودها في المنطقة بما في ذلك المخيم. وأن هذا الاتفاق جاء في أعقاب قيام إسرائيل بعملية عسكرية واسعة في مخيم جنين أسفرت عن استشهاد اثني عشر مواطنا وجرح بضع عشرات وهدم العديد من البيوت أو إعطابها بحيث لم تعد صالحة للسكن وتدمير البنية التحتية بما في ذلك الماء والكهرباء والشوارع، مما يجعل الحاجة الى دخول السلطة الى المخيم بحجة الإعمار أمرا ً مبررا ً بل ومرحبا ً به لا سيما بعد الوعود بضخ ملايين الدولارات لإعمار المخيم.
فالذي حدث لم يكن عشوائيا ً بل مخططا ً له إسرائيليا ً على الأقل ومبني على أساس قمع المقاومة في المخيم وترويض ما يتبقى منها وتهيئة الأجواء لدخول قوات أمن السلطة الى المخيم في اطار ما يقال له إعادة السيطرة الأمنية للسلطة على المخيم، بالتزامن مع بدء عملية الترميم التي هي حاجة حيوية للمواطنين المنكوبين.
وبالفعل فقد توقفت العمليات العسكرية الإسرائيلية بالمخيم ولكنها استمرت في مداهمات المدن الأخرى بالضفة مما يُعطي الانطباع بأن النموذج الذي تم تطبيقه في جنين قد يتم استنساخه في مناطق ومدن أخرى بالضفة، وبنفس الأسلوب الذي تم في جنين بحيث يدعي الاحتلال بأنه يقوم بذلك من أجل استعادة قوى الأمن الفلسطينية سيطرتها على جميع المدن التي فيها جماعات مقاومة مسلحة مثل نابلس وطولكرم ومخيم عقبة جبر وأي مكان آخر يظهر فيه وجود أو فعل للمقاومة.
لقد شكلت زيارة الرئيس عباس للمخيم فرصة لإدخال أكبر عدد ممكن من أفراد الأمن الفلسطينيين للمخيم كما شكل الدمار والخراب والمعاناة التي خلفها الهجوم الإسرائيلي فرصة للتواجد المدني للسلطة تحت طائلة تعمير المخيم وإزالة آثار العدوان الإسرائيلي الهمجي وإعادة اعمار البيوت التي هدمت أو تضررت قبل حلول الشتاء القادم مما يعطي مجالا ً للافتراض بأن المخيم مقبل على فترة هدوء وانضباط لم تكن متوفرة من قبل، وسيكون من أبرز معالم هذه الفترة هو الحضور الأمني لأجهزة الأمن الفلسطينية في المخيم والذي سيبقى بعد انتهاء أعمال الاعمار.
تكرار هذا السيناريو في مناطق أخرى بالضفة سيعني إحلال قوى الأمن الفلسطينية مكان العمليات العسكرية الإسرائيلية وتعزيز قبضة الأجهزة الأمنية في السيطرة على المناطق المأهولة بالسكان الفلسطينيين لمنع القيام بعمليات عسكرية ضد الاحتلال أو المستوطنين.
لا أحد يكره رؤية الهدوء والاستقرار في المناطق الفلسطينية ووقف المداهمات والاعتقالات والقتل الذي يمارسه الاحتلال ضد أبناء شعبنا اذا كان ذلك يتم في اطار رؤية سياسية وخطة تقوم على أساس تعزيز وتقوية الوجود الأمني للسلطة لكي تحل محل الاحتلال في السيطرة على كل مناحي الحياة تمهيدا ً لإنهاء الاحتلال. وهذا ممكن اذا كان تعزيز القبضة الأمنية للسلطة يمشي جنبا ً الى جنب مع تعزيز عملية سياسية تؤسس لإنهاء الاحتلال.
فهل هذا هو ما يحدث بالفعل؟
نظرة سريعة على مجمل الوضع تؤكد بأن البعد السياسي غائب تماما، وأن تصفية المنظمة وبشكل مبرمج مستمرة جنبا ً الى جنب مع إضعاف السلطة وتحويلها الى جسم كرتوني تمهيدا ً لشطب وجودها وإعلان انتهاء دورها بشكل رسمي. وكل ما يتم التركيز عليه إسرائيليا ً وأمريكيا ً هو تعزيز الدور الأمني لأجهزة أمن السلطة بمعزل عن أي أفق سياسي، مع تكريس الاستيطان والضم الزاحف على كل المستويات.
نحن لا نملك أية خطة أو استراتيجية للتعامل مع الاحتلال سوى اللهاث وراء سراب الحل السياسي بحيث أن خطابنا السياسي لم يتغير منذ عملية أوسلو عام 1994 رغم كل المتغيرات الجذرية التي وقعت على ساحة العلاقة الإسرائيلية - الفلسطينية وعلى المستويين الإقليمي والدولي. بينما للطرف الآخر استراتيجية وخطة عمل مغايره لعملية أوسلو يتم تنفيذها في كل لحظة وساعة ويوم. وقوام هذه الخطة هو الاستيلاء على الأرض واقتلاع الناس وتثبيت الضم والاحتلال.
ففي كل يوم اعتداءات للمستوطنين على بيوت الناس وقطعان مواشي المزارعين وحقولهم، وفي كل يوم استيلاء على ينابيع المياه أينما وجدت، وفي كل يوم استيلاء على المواقع الأثرية مهما كانت قيمتها التاريخية وبغض النظر عما يمكن أن تثبته او تنفي وجوده، وفي كل يوم مداهمات واعتقالات وإبعاد وفي كل يوم اخلاء للمواطنين بالقدس من بيوتهم أو اعتقال أبنائهم وكل من يقف أمام بيوتهم للتضامن معهم ضد اخلاء بيوتهم وتسليمها للمستوطنين.
تعزيز واثبات قدرة الأجهزة الأمنية على السيطرة على المدن أو المخيمات الفلسطينية لا يعني للقضية الوطنية شيئا ً ما لم يكن مقترنا ً ومتلازما ً مع وقف الاستيطان وكبح جماح المستوطنين وبدء العد التنازلي لإنهاء الاحتلال، وأية إجراءات أمنية في غير هذا السياق لن تؤدي إلا الى تصفية القضية وتكريس الضم والاحتلال.