نجا محكومون بالإعدام من الموت، عندما دخل الجلاّدون الغرفة الخطأ، واقتادوا أشخاصاً غيرهم إلى حبل المشنقة. وبعد سماع الخبر، أصدر رئيس الدولة، الذي رأى في الخطأ علامة من السماء، أمراً بالعفو عن الناجين. تتجلى في هذه الحادثة هشاشة وجود ومصير الإنسان، وقد صار كلاهما رهينة مصادفات عبثية واعتباطية، وفيها، أيضاً، ما يسكن فكرة الحكم المُطلق من عنف مُبتذل يسوّغ للحاكم مصادرة واحتكار حق التصرّف في شؤون الحياة والموت.
وقعت الحادثة المذكورة في عراق العهد الصدّامي. وإذا كان في حقلها الدلالي ما يصلح وسيلة إيضاح للشمولية في كل مكان آخر من العالم، إلا أن لها تجليات تتفاوت من مكان إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، أيضاً. فعلى الرغم من تصنيف مختلف "الديمقراطيات" و"الاشتراكيات الشعبية" في أوروبا الشرقية والوسطى في زمن الحرب الباردة بالشمولية، إلا أنها امتازت بوجود أقنعة رقابية وبيروقراطية وتشريعية للعنف، أكثر فعالية وأقل سفوراً من عنف شموليات البعث العراقية والسورية (وأنظمة العسكر، والإبراهيميين، بطبيعة الحال).
يمثل ما تقدّم (أي الشمولية، وأقنعتها، وعنفها السافر والخفي) عتبة لا غنى عنها في كل محاولة للكلام عن الروائي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا، الذي أثارت وفاته، قبل أسبوع، سجالات وتعليقات متباينة تناولت رواياته، ومواقفه، وقد ورد فيها الكلام عن تأييده لإسرائيل، التي نال جائزة مرموقة من جوائزها الأدبية، إضافة إلى سيرة حياته، وما وسمها من تقلبات رأى فيها البعض سبباً للنيل من نزاهته الأخلاقية والسياسية. بناء عليه، وبقدر ما أرى، كان الكثير مما ورد في هذا الشأن فائضاً عن الحاجة.
لذا، ثمة ما يبرر الكلام عن كونديرا وعالمه الروائي، وموقفه المؤيد لإسرائيل، بطريقة مختلفة في معالجة اليوم، ومعالجتين لاحقتين على الأقل. ولنركّز أنظارنا اليوم على المذكور "شخصاً ونصاً" آخذين في الاعتبار عتبة الشمولية، التي سبق الكلام عنها، وأقنعتها، وعنفها السافر والخفي من ناحية، وملاحظة أن أسوأ المعالجات النقدية هي تلك التي "تلّخص" الروايات، على اعتبار أن التلخيص "قراءة نقدية" من ناحية ثانية. وبهذا المعنى، الأهم من تلخيص الروايات لقارئ، صار كسولاً، هو تحليل بنيتها الأساسية وحقولها الدلالية.
مع النظام الشمولي، وأقنعته السافرة والخفية في الذهن، أتوقف عند فكرة صاغها كونديرا في مقالة نشرها في مجلة نيويورك لمراجعة الكتب في أواسط الثمانينيات، وأعاد صياغتها في كتابه البديع "فن الرواية"، ومفادها أن السمة الرئيسة "للحضارة الغربية" أنها حضارة السؤال، وأن في هذه الخصوصية ما يفسّر قوة الدفع في تاريخ الغرب، وسر ما أنجز على مدار قرون في حقول مختلفة.
وهذه ليست فكرة مبتكرة، فقد كررها آخرون بصيغ مختلفة، وفي فترات زمنية مختلفة أيضاً. ومع ذلك، تبدو في حالة كونديرا مبتكرة وشخصية تماماً، وربما طوق نجاة، أيضاً، وفي وسعه التدليل عليها بحياته نفسها، ورواياته، وقد صار كلاهما وسيلة إيضاح ناجحة لفعالية الأسئلة.
قلنا "طوق نجاة"، وهذا ما لا يبدو مفهوماً بالقدر الكافي في الوقت الحاضر، ولكنه يمثل فكرة راديكالية، وثورية تماماً، إذا فكّرنا في حقائق من نوع أن الثقافة السائدة في الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، بين نهاية الحرب العالمية الثانية، وسقوط جدار برلين، تصرّفت من ناحية نظرية وعملية بوصفها "حضارة الجواب"، وإذا تخيّلنا مدى قناعة الشيوعيين القدامى (وقد كان كونديرا شيوعياً في يوم ما) بقدرة الماركسية ـ اللينينية، بل والستالينية (الأخيرة حتى تقرير المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي) على تقديم الجواب الكافي والشافي على كل ما يتصل بتاريخ ومجتمعات ومستقبل بني الإنسان.
بيد أن التضاد الحاد بين حضارتي السؤال والجواب في زمان ومكان محددين لا يكفي، فثمة ما يستدعي البحث عن تجربة رضيّة ذاتية وشخصية تماماً، عن "صاعق" من نوع آخر. ربما مارس "ربيع براغ" (وهي بالمناسبة من أحب المدن الأوروبية إلى قلبي) في العام 1968 دور الصاعق العام، ولكن في مكان ما من سيرة كونديرا، في غير المصرّح به، والمسكوت عنه (والمفضوح في رواياته) قد نعثر على "صاعق" من نوع آخر، وعلى صدمة رضّية ذاتية وشخصية تماماً، نجمت عن عذاب الازدواجية، التي لا يندر أن تتجلى كخيانة للنفس.
الازدواجية (التناقض بين الظاهر والباطن) شيء سيئ تماماً، بطبيعة الحال، ولكنها من ضرائب العيش في ظل أنظمة شمولية، وقد تصبح من فنون العيش في نظر البعض، وفقدان الإحساس بالكرامة لدى البعض الآخر. قبل عقود قليلة، تداولت مصادر مختلفة أخباراً تقول إن كونديرا الشاب ربما كتب تقارير أمنية عن زملائه، وظهرت وثائق ذات صلة بالموضوع.
لا أعتقد أن ثمة ما يبرر نفي اتهام كهذا، لمجرّد الاعجاب بكونديرا. يمكن لكل من عاشوا في ظل أنظمة شمولية، حيث المصادفات الاعتباطية والعبثية تمد طوق النجاة أو تؤدي إلى التهلكة، "استرجاع" مواقف تصرّفوا فيها بنذالة للنجاة من مآزق صغيرة أو كبيرة.
يبدو هذا التفصيل، في حالة كونديرا، قليل الأهمية في الوقت الحاضر، إذا ما قورن بكفاءة التجربة الرضيّة، أو "الصاعق" الذاتي، معطوفة على الراديكالي في فكرة الأسئلة كجوهر لحضارة الغرب، في تبرير فعل "الانشقاق" الذي صار مادة للخيال والتخييل (الكل يدق جدران الخزان على طريقته) من ناحية، وفتح هذا الأفق الروائي، والفكري، البديع، بكل ما فيه من الثراء الإنساني، وفنون الامتاع والمؤانسة، من ناحية ثانية. فاصل ونواصل.