يقول المثل الشعبي، «ما بيحك جلدك غير ظفرك»، وينصح التراث الشعبي كل صاحب مشكلة بأن يقلع شوكه بيده، لأن القابلة لن تكون أحن على الوليد من أمه، وهذا ينطبق تماماً على الشعب الفلسطيني، الذي وإن كان قد حرص طوال الوقت، على أن يكسب تأييد العالم لقضيته العادلة، إلا أنه لا تنتابه الأوهام، بأن المجتمع الدولي، بدوله وشعوبه، هو من سيرفع عنه الظلم، أو أنه هو من سيجبر إسرائيل على إنهاء احتلالها لأرض دولة فلسطين، والانسحاب منها، ولهذا فإن الشعب الفلسطيني لم يتوقف يوماً عن المقاومة متعددة الأشكال والأساليب، ولهذا أيضاً، ورغم قوة إسرائيل العسكرية وجبروتها السياسي المستمد من عالم ظالم، يكيل بأكثر من مكيال، ورث عالماً استعمارياً زرع إسرائيل في جسد فلسطين، لتحقيق غايات أو أهداف استعمارية، تداخلت مع دوافع أخرى، ما زالت تحول ليس فقط دون تفكيك إسرائيل كدولة عنصرية، بل ما زالت تحول دون إنهاء احتلالها الذي تعتبره كل الدنيا بما في ذلك أميركا والغرب، غير شرعي.
والعالم في ظل الحرب الباردة، نظر إلى احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين وللأرض العربية، على أنه جاء في سياق تلك الحرب، بين القطبين العالميين، ونظر القطب الغربي الرأسمالي لإنهاء احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين، ولإقامة الدولة الفلسطينية، على أنه تحقيق لنصر أو مكسب للشرق على حساب الغرب في لعبة الشطرنج السياسي بينهما، ولم يختلف الأمر كثيراً بعد الحرب الباردة، أي في ظل النظام أحادي القطب بالزعامة الأميركية، وبقيت أميركا التي تقود العالم، تتبنى عملياً الموقف الإسرائيلي، لكنها حين يقع خلاف داخلي إسرائيلي حول قضية ما، تحتار إلى حد ما، وتبقى تفضل تبني الموقف الرسمي، وأميركا رعت اتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي، فقط حين تبنته إسرائيل وقبلت به حكومة إسحق رابين، وظلت أميركا تقوم بدور الوسيط لأنها بالطبع مقبولة بهذه الصفة على إسرائيل، ولم تجبر إسرائيل يوماً، لا لتبني الموقف الدولي، ولا القرارات الأممية، ولا حتى على تنفيذ ما وقعت إسرائيل بنفسها عليه، وبعد محاولات من نظام التحرر العربي، تقدم الفلسطينيون لتحرير أنفسهم بأنفسهم، بل وتقدموا حركة التحرر العربي نفسها، حين تعرضت للانتكاسة العسكرية/السياسية العام 1967.
وفرضت الثورة المعاصرة فلسطين على الخارطة السياسية للعالم، إلى أن اعترف بها، أي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، ملحقاً بذلك الهزيمة السياسية المدوية بكل محاولات تبديد الهوية الوطنية الفلسطينية، كذلك استمرار شعلة الثورة متقدة، رغم احتلال إسرائيل لكل أرض فلسطين التاريخية، بعد أن كانت قد احتلت نصفها عام 48، وذلك عام 67، أبقى على ثبات الشعب الفلسطيني على أرضه المحتلة، وفوت على إسرائيل محاولتها تجديد النكبة، بتهجير نصف الشعب الفلسطيني الذي بقي على أرضه ما بين البحر والنهر، رغم شمول الاحتلال كل أرض فلسطين الانتدابية.
واستمرار شعلة الثورة، أبقى عملياً فكرة الموروث الشعبي الذي يعرف الحكمة التي تقول، إن الضرب الذي لا يكسر الظهر يقويه، أي أن الشعب الفلسطيني، بعد أن صمد في وجه الاحتلال، بات يقاوم بقاءه، على طريق كنسه وإلحاق الهزيمة به، بطرده من أرض دولة فلسطين.
وبعد أن جرب الشعب الفلسطيني الثورة المسلحة في الخارج، ذلك أن إطلاق ثورة مسلحة داخل فلسطين، خاصة قطاع غزة والقدس والضفة الغربية، وهي أرض محدودة المساحة، لا تتمتع بعمق جغرافي ولا بتضاريس وعرة، يمكن لحرب العصابات التي كانت الشكل المقاوم الأثير لحركات التحرر في أميركا اللاتينية وأفريقيا وحتى شرق آسيا، يعني الدخول في محاولات بطولية لكن انتصارها غير مؤكد، فيما كان إطلاق المقاومة المسلحة على أراضي جوار فلسطين، محفوفاً بمعارضة دول الطوق، ولهذا قامت تلك الثورة بأداء دورها الذي تناسب وظروف تلك المرحلة، في الوقت الذي مهدت فيه الطريق للانتفاضة الكبرى التي انطلقت في كانون الأول 1987.
وقد اعتبرت تلك الانتفاضة تتويجاً لكفاح الشعب الفلسطيني المعاصر ضد احتلال أرضه، وحرمانه من إقامة دولته المستقلة، كما هو حال كل شعوب العالم والمنطقة، وذلك لأكثر من سبب، أول هذه الأسباب أن الانتفاضة اندلعت على الأرض الفلسطينية التي يعتبرها العالم كله، ومنه القانون الدولي أرضاً محتلة، مقاومة الاحتلال فيها عمل شرعي، وثاني هذه الأسباب أنها كانت شعبية، يقاوم فيها الشعب في كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين المحتلة، من جنين إلى رفح، بالحجر، والمقلاع، وعبر التظاهر السلمي، ولهذا فإن إسرائيل أجبرت على الدخول في التفاوض مع الشعب الفلسطيني، أولاً بشكل معلن في مؤتمر مدريد بقيادة اليمين الليكودي أيام إسحق شامير، فيما كان حزب العمل يفتح مساراً تفاوضياً ثنائياً مباشراً في أوسلو، أفضى إلى إعلان المبادئ، الذي حمل توقيع إسرائيل على جوهر الأهداف الوطنية الفلسطينية، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، حيث نجم عن ذلك الاتفاق، الذي جاء بدوره كثمرة للانتفاضة الأولى، التي أسس لها بدوره الكفاح المسلح، إقامة أول سلطة فلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية، حين انسحبت إسرائيل من قطاع غزة، ومن المدن الفلسطينية.
لن تقدم إسرائيل إذاً على أي فعل من شأنه، أن ينهي الاحتلال، ولن تقوم بتفكيكه، من جراء نفسها، بل هي بعد ثلاثة عقود من توقيع أوسلو، وبسبب كل ما حدث من تدهور إقليمي، في الدول العربية خاصة، من حروب داخلية، وإسقاط أنظمة وإضعاف دول وحتى تفكيكها، كما حدث مع السودان، بعد خروج دولة جنوب السودان من أكبر دولة عربية مساحة قبل ذلك، وكما حدث مع العراق، بإقامة الحكم الذاتي الكردي رسمياً، وإغراقه في مشاكل داخلية شلت من دوره الإقليمي، ثم سورية بتدمير الدولة والدفع بنصف شعبها للهجرة الداخلية والخارجية، وكذلك ليبيا واليمن، صارت تظن إسرائيل أن الوقت قد حان لتأبيد احتلالها لأرض دولة فلسطين، بل وضم القدس والضفة الفلسطينية لها، وقد شجعها تصدع جدار الصد العربي، بعد توقيع اتفاقيات أبراهام التطبيعية بينها وبين أربع دول عربية أخرى، أي غير مصر والأردن.
وإسرائيل في ظل أكثر حكوماتها يمينية وتطرفاً، باعتراف مراقبيها وقادتها السياسيين والأمنيين، بل ووفق ما يصفها به الحليف الأميركي، ممثلاً بالرئيس جو بايدن، أطلقت العنان، لحرق الأرض الفلسطينية عسكرياً وسياسياً، بعد فترة من الضغط الاقتصادي، ظانة أن فتح أبواب جهنم على الشعب الفلسطيني، عبر تحالف الحكومة المتطرفة والجيش وأجهزة الأمن والمستوطنين بمليشياتهم وأسلحتهم، سيحقق الهدف المنشود المتمثل بتأبيد فكرة أن القدس والضفة الفلسطينية، إنما هي أرض إسرائيلية.
لذا فقد رد الشعب الفلسطيني على قيام الجيش والشرطة باقتحام المدن، أي على عدم الالتزام بأوسلو، بإطلاق المجموعات المسلحة، وبعد سنوات من اجتراح الشعب الفلسطيني لأساليب المقاومة المبتكرة عالمياً، بدأ يظهر المقاومون المسلحون بالبنادق الآلية والرشاشة، يتصدون للجيش حين يقتحم المدن، ثم انتقلت للهجوم بتنفيذ بعض العمليات المسلحة، ولم يعد الشعب الفلسطيني يستخدم العمليات الاستشهادية التي عرفها قبل عقدين من الزمان، أي خلال الانتفاضة الثانية التي اندلعت بعد اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى العام 2000.
يمكن القول اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عشر شهراً على «كاسر أمواج» الضفة الفلسطينية، وآخر حلقاته عملية «البيت والحديقة» في جنين، بأن الجيش الوطني الفلسطيني الذي يتصدى لجيش الاحتلال، بدأ يتشكل في جنين ونابلس، فيما يعتبر مثال أهالي أم صفا، رداً بالمقاومة الشعبية على عربدة المستوطنين ودورهم في حرب إدامة الاحتلال بالضم، وهكذا أخذ الشعب الفلسطيني زمام المبادرة بنفسه، وهو في طريقه لتحرير أرضه من الاحتلال بنفسه، وهو من سيقوم بتطبيق العدالة الدولية بقوانينها وقراراتها التي لم تطبقها لا الأمم المتحدة ولا غيرها.