مع الإعلان عن نتائج امتحان الثانوية العامة» التوجيهي»، وبعد الانتهاء من أجواء الفرحة والاحتفالات، تنتاب الحيرة الطلبة الناجحين وأولياء الأمور، ويبدأ التفكير والتخطيط لاختيار الكلية أو الجامعة ومن ثم التخصص، وما إلى ذلك من أمور، ومتناسين أن نسب البطالة لخريجي الجامعات والكليات الأكاديمية تصل إلى الـ 40%، وفي بعض التخصصات تصل النسبة إلى حوالى الـ 80%، وفي نفس الوقت متناسين أن هناك مساراً للتعليم المهني والتقني يمكن الإقبال عليه وبكل جدارة، حيث تبلغ نسبة البطالة عند خريجيه الصفر تقريباً.
وفي ظل الاضطراب والقلق الذي يصاحب الطلبة الجدد وأولياء أمورهم قبل التوجه إلى مقاعد الجامعات أو الكليات المختلفة خلال الأسابيع القادمة، وفي ظل عدم حدوث أي تغيير جذري في فلسفة ومفهوم ونوعية التعليم وبالأخص التعليم العالي في بلادنا، وكذلك في ظل الأرقام المرعبة حول نسب البطالة عند الخريجين الجامعيين، وفي نفس الوقت ارتفاع تكاليف التعليم العالي وبالأخص في الظروف الحالية، ووجود تخصصات مكررة كلاسيكية بات خريجوها في حالة انفصام عن سوق العمل واحتياجاته، وباتت احتياجات المجتمع بعيدة كل البعد عن مخرجاتها، يصبح مسار التعليم المهني خياراً جدياً واقعياً يستدعي الدعم والتسويق والقيام بإجراءات من أجل تحفيز التوجه إليه.
ومن المعروف أن عشرات الآلاف من الطلبة الجدد يلتحقون بالجامعات كل عام، وأن جزءا كبيراً من هؤلاء الطلبة يلتحقون بتخصصات مكررة في الجامعات الفلسطينية، وهم يعرفون أن فرص إيجاد عمل في هذه التخصصات هي ضئيلة أو معدومة، وتعرف كذلك الجامعات ووزارة التعليم العالي أن المجتمع الفلسطيني أصبح مشبعاً أو وصل درجة فوق الإشباع في هذه التخصصات وبالتالي لا حاجة إليها، أو على الأقل لا حاجة إليها في كل الجامعات، وأنها أصبحت عالة على المجتمع وأن بقاءها يعكس سوء التخطيط أو الإدارة من قبل الجامعات والجهات المسؤولة وكذلك يظهر عدم الاهتمام بمستقبل الخريجين وبحاجات المجتمع.
وفي ظل هذا الوضع، يجب التأكيد على أهمية التعليم المهني أو التقني، أو التعليم غير الجامعي والذي هو ربما أهم من التعليم الجامعي في بلادنا، والذي تستثمر فيه الدول المتقدمة الجزء الأكبر من الميزانية ومن الخطط الاستراتيجية، والذي يقبل عليه الكثير في هذه الدول.
ورغم الاهتمام المتزايد في التعليم المهني عندنا، إلا أن القليل قد تم على الصعيد العملي، من أجل تشجيع الإقبال على هذا التعليم أو خلق الفرص والإمكانيات من أجل توجه الطلبة نحوه، ومن ثم ربطه وبشكل استراتيجي، سواء من حيث الكم أو النوع مع احتياجات المجتمع.
وللسير في هذا الاتجاه يتطلب وجود سياسات وقوانين وأنظمة من أجل زيادة الإقبال على هذا التعليم، وهذه القوانين من المفترض أن تحدد الأسس ومن ثم الحوافز من أجل التوجه إلى هذا التعليم، وهذا يتطلب إيجاد تخصصات متقدمة ومحترمة وتساهم في تقدم المجتمع كما ساهمت في تقدم مجتمعات أخرى وليس فقط تخصصات اعتاد الناس عليها خلال عشرات السنوات الماضية، ما يتطلب كذلك توفير الإمكانيات من مختبرات ومشاغل وكوادر بشرية، وهذا يحتاج زيادة الوعي عند الناس لتغيير نظرتهم إلى التعليم المهني والتقني وكأنه درجة ثانية أو ثالثة بعد التعليم الجامعي، وهو يتطلب الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص الذي لا يتقدم كما يتم في المجتمعات الأخرى دون الاعتماد على مخرجات هذا التعليم، والذي دونه لا يمكن التعامل وبشكل جدي مع قضية البطالة في بلادنا.
وفي مناطق تزخر بمجالات الإبداع والابتكار، وفي دول متقدمة تكنولوجياً واقتصادياً وصناعياً ولا تعاني من البطالة وتداعياتها، يقبل غالبية الطلبة على التعليم المهني والتقني، ودون حساسية أو الشعور بأنه تعليم من الدرجة الثانية أو الثالثة، وتستثمر هذه الدول والقطاع الخاص فيه، وتتسابق الصناعة والشركات على خريجيه، ويجد الخريجون فرص عمل، ولا تبلغ نسب البطالة عند الخريجين تلك النسب التي تنطبق على خريجي الجامعات في بلادنا.
تلك النسب وفي ظل الظروف الحالية والواقع الحالي فإنها على ما يبدو سوف تستمر في الارتفاع حتى يتم إيجاد استراتيجية وطنية، يمكن تطبيقها عملياً من خلال الحوافز والتوعية، للإقبال أكثر وللاستثمار أكثر وبشكل مستدام في التعليم المهني والتقني، سواء أكان ذلك من خلال إنشاء جامعة أو جامعات أو كليات أو مراكز للتعليم والتدريب المهني، أو من خلال آليات دعم الاستثمار في قطاعات تحتاج إلى هذا النوع من التعليم، وبالتالي إيجاد فرص العمل التي يحتاجها من يخطط للإقبال على التعليم المهني، وفي نفس الوقت الابتعاد عن تخصصات ومواضيع في التعليم العالي أصبحت مملة ومكلفة وبعيدة عن واقعنا وعن أولوياتنا.
ودون شك أن هناك اهتماماً متزايداً في الفترة الأخيرة، سواء من قبل الجهات الرسمية أو من قبل الرأي العام بالدعوة إلى التوجه نحو التعليم المهني، أو التعليم التقني، أو بالأدق التعليم غير الأكاديمي، أي ليس التعليم الذي اعتدنا عليه في الجامعات والكليات المختلفة، ورغم عدم وضوح وجود خطة استراتيجية بعيدة المدى تتعامل مع التعليم المهني بشكل مستدام، أي بشكل يصبح جزءاً أساسياً من نظام التعليم في بلادنا، وليس مرتبطاً بمشروع هنا أو برنامج هناك أو توفر أموال من هذه الجهة أو تلك، رغم ذلك فإن الاهتمام بالتعليم المهني، وبالأخص في أوضاع أو في ظروف مثل ظروف بلادنا، هو ظاهرة إيجابية تتطلب الدعم والتشجيع والحث على المضي فيها قدماً، سواء من ناحية النوعية أو الكمية، ولكي تصبح جزءا أساسياً من استراتيجية التعليم في بلادنا، لا تتغير بتغير الأشخاص أو بتغير أولويات الدعم والمنح.