ما يزال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يحظى بمكانة مميّزة لدى الطبقة السياسية الفلسطينية.
هذه الطبقة التي تجسّدها الفصائل تختلف على كلّ شيء إلّا على إردوغان. وبما أنّ المؤثّر الأساسي في الرأي العامّ الفلسطيني هما القطبان "فتح" و"حماس"، فحركة فتح التي يمثّلها الرئيس محمود عباس منحت إردوغان ميداناً في رام الله يحمل اسمه، وحركة حماس نادت به مبكراً خليفة للمسلمين أو الرجل الذي يجسّد دولة الخلافة.
تصاعد نجم إردوغان
لقد ازدهر وضع إردوغان في الرأي العامّ الفلسطيني عندما نشب خلاف علنيّ وحادّ بين تركيا وإسرائيل، ورأينا في حينه ما رأينا من إذلال متبادل بين الجانبين، ولم يزل ماثلاً أمام أعيننا مشهد المقعد المنخفض الذي أُجلس عليه السفير التركي في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وكان ذلك التصرّف الأكثر صبيانية من جانب إسرائيل إزاء الدولة والشعب التركيَّين.
استقبال إردوغان لمحمود عباس ووفد حماس، الذي وُصف بأنّه تهيئة للأجواء قبل انعقاد اجتماع الأمناء العامّين في مصر، جاء بفارق زمني بسيط عن اللقاء الأهمّ الذي تحدّث عنه الرئيس إردوغان، والذي سيجمعه مع بنيامين نتانياهو، إلا أنّه تأجّل لسبب قسري يتعلّق بالحالة الصحّية لنتانياهو التي منعته من عقد اللقاء في الوقت المحدّد على الرغم من أنّه من اللقاءات المهمّة للغاية التي يعوّل عليها نتانياهو وهو في عمق أزمة كبرى أضعفت نفوذه المتكرّس في إسرائيل، ووضعته وحزبه والحكومة والدولة في أزمة لا حلّ لها، "على الأقلّ حتى الآن".
مبروك لإردوغان الميدان الذي سيحمل اسمه في رام الله، فكلّ شوارع الضفّة وغزّة مكتظّة بالأسماء الفلسطينية والعربية والعالمية، وتحية لصراحة إردوغان الذي حدّد سقف التوقّعات منه
قبل تأجيل زيارة نتانياهو لتركيا، التي كانت ستتزامن مع زيارة عباس ولو على وجه التقريب، جرى تركيب سيناريوهات لا صلة لها بالحقيقة، كالقول إنّ التزامن ليس صدفة، وقد تكون هناك محادثات سرّية في ضيافة إردوغان. لكنّ هذا السيناريو لم يكن غير حقيقي وحسب، بل وغير منطقي، لسبب يتّصل بنتانياهو الذي لا يرى مصلحة له في لقاء عباس، ولا حتى أن يسمح لإردوغان بطرح اقتراح بهذا الخصوص.
ما بين إردوغان وأبو مازن
السيّد إردوغان المشتبك مباشرة مع كلّ خيوط الأزمة الأوكرانية وامتداداتها الأميركية والأوروبية والروسية وغيرها، يدير سياساته في شبكة شديدة التعقيد وبكفاءة مشهودة. فقد وضع نفسه وتركيا في موقع ينشد فيه الجميع رضاه وتعاونه. وفي حالة كهذه هو أبعد ما يكون عن محاولة فتح الملف الفلسطيني الإسرائيلي. فلا إسرائيل جاهزة ولا الفلسطينيون كذلك، وكان في منتهى الصراحة والصدق مع ضيفَيْه عبّاس وهنيّة حين حدّد سقف الموقف التركي بالدعوة إلى الوحدة وتأييد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتدعم تركيا لقاء مصر ومستعدّة لتلبية ما يطلبه الفلسطينيون منها.
أمّا محمود عباس، الذي زار تركيا أكثر بكثير ممّا زار غيرها من دول العالم، فقد اعتبر اللقاء مع إردوغان منصّة مناسبة لتجديد موقفه من اجتماعات الأمناء العامّين، وقد أبلغه لحركة حماس ولإردوغان بأوضح العبارات وأكثرها تحديداً، فإن رغبت "حماس" وغيرها من الفصائل أن ينجح اللقاء في مصر فعليها الموافقة على الأساس السياسي الذي يصلح لأن تُبنى عليه الوحدة المأمولة.
ما قاله عباس وأكّده هو ما يلي: "إنّ دخول النظام السياسي الفلسطيني يتطلّب الموافقة على منظمة التحرير ممثّلاً شرعياً وحيداً، والموافقة على برنامجها السياسي والتزاماتها الدولية. وإنّ السلطة الفلسطينية سلطة واحدة، وقانون واحد، وأمن واحد، ونظام سياسي واحد، وسلاح واحد".
هل توافق "حماس" وحتى بعض الفصائل على هذا النصّ الحاسم في أمر الوحدة؟ لا أحد يعرف قبل أن يرى ما الذي سيسفر عنه اللقاء المقبل في القاهرة.
سبق أن تمّ تجاوز هذه الصيغة تارة بالتحايل، وتارة بتغيير المفردات، وما زلنا نذكر حكاية "نلتزم أو نحترم" التي لم تُحسم بعد، وكانت الحجّة الرئيسية في إعاقة الاتّفاق السياسي الذي بدوره أعاق المصالحة وأطال عمر الانقسام، الذي يبلغ بعد سنة ما يوصف عند البشر "بسنّ الرشد".
مبروك لإردوغان الميدان الذي سيحمل اسمه في رام الله، فكلّ شوارع الضفّة وغزّة مكتظّة بالأسماء الفلسطينية والعربية والعالمية، وتحية لصراحة إردوغان الذي حدّد سقف التوقّعات منه، في هذا الزمن بل وما قبله. فلا أحد يقلّل من أهمية تركيا الأطلسية، وعند البعض دولة الخلافة، ولا أحد ينظر بلا "موضوعية" إلى اللقاء المرتقب بين إردوغان ونتانياهو، فلقاء كهذا لا يفسد للودّ قضية عند طرفَي الانقسام.