حين دخل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب البيت الأبيض، قبل ست سنوات، وسارع إلى بث سمومه السياسية في غير مكان، كان للوطن العربي منها نصيب، أولها كان السطو على أموال العرب، حيث عاد من أول زيارة خارجية له وكانت للشرق الأوسط، بمليارات الدولارات، ليضعها في خزينة بلاده، متباهيا بأنه قام بضخ الدماء في عروق الاقتصاد الأميركي، ثم سارع إلى تقديم الهدايا لإسرائيل ولصديقه الأعز بنيامين نتنياهو، وكانت تباعا، عدم رفع «الفيتو» على قرار الكونغرس القديم الموصي للإدارة بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، على غير عادة كل الرؤساء الأميركيين السابقين ــ جمهوريين وديمقراطيين ــ بما يعني اعترافه الضمني بالقدس المحتلة ضمن عاصمة إسرائيل، التي لم تكن كذلك يوم إعلان الدولة العام 1948، ثم اعترافه بضم إسرائيل الاغتصابي للجولان السوري المحتل، وبعد ذلك كان سعيه الأخطر لإعداد ومن ثم تقديم ما سماها صفقة العصر، بحيث ظهر لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين بأن ترامب إنما هو أسوأ الرؤساء الأميركيين للفلسطينيين وأفضلهم للإسرائيليين.
وكان ترامب قد أحاط نفسه وأدخل للبيت الأبيض ولإدارته أسوأ الموظفين الأميركيين في عدائهم للحقوق الفلسطينية، وكان منهم نائبه مايك بنس وصهره اليهودي المتزمت جاريد كوشنير، والسفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، وفي حين استكان العرب لدرجة أنهم هيؤوا الطريق لصفقة العصر باجتماعات عقدها كوشنير في المنامة، إلا أن إرادة الشعب الفلسطيني وقيادته، التي قالت لا لخطة ترامب المدمرة للحقوق الفلسطينية، أفشلتها، لدرجة أن البيت الأبيض جبن عن تقديمها وإعلانها بشكل رسمي، فيما عوض إسرائيل عنها بعقد اتفاقات «أبراهام» سيئة الصيت والسمعة، والحقيقة أنه رغم أن تلك الاتفاقيات وما تبعها من علاقات بين الدول العربية التي شاركت فيها وإسرائيل تعتبر طعنة في ظهر فلسطين، وإضعافا لحائط الصد والدعم السياسي لحقوق شعبنا العادلة، إلا أن انقلابا في الشرق الأوسط لم يحدث، كما روج ثنائي اليمين الإسرائيلي والأميركي، بل خسر كلاهما الانتخابات التالية، فيما ارتفعت عقيرة الشعب الفلسطيني المقاومة.
ومنذ مطلع هذا العام، توجت إسرائيل بأسوأ حكوماتها من حيث التطرف واليمينية التي اتبعت سياسات كانت وبالا، ليس على الفلسطينيين وحسب، ولكن على نصف الإسرائيليين أيضا، بما يهدد مؤسسات الدولة التي رافقت إعلان قيامها، بحيث يمكن القول، إن إسرائيل مع حكومة التطرف قد وصلت إلى أبعد نقطة من رفض الحقوق الفلسطينية والتنكر لها، فإن ذلك أولا لم يفت من عضد الشعب الفلسطيني، ولم يمس شيئا من إرادة قيادته، ورغم فداحة العنف الإسرائيلي الرسمي، ممثلا بالجيش والشرطة، وغير الرسمي ممثلا بالمستوطنين، الذين وصفهم بني غانتس وزير الجيش السابق، وزعيم اكبر حزب في استطلاعات الرأي حاليا، بالإرهاب اليهودي القومي، إلا أن مقاومة الشعب الفلسطيني لم تتوقف، بل ارتفع منسوبها ارتباطا برفع وتيرة الإرهاب الإسرائيلي.
وبعد نحو عام ونصف العام على إطلاق عملية «كاسر الأمواج» تؤكد أجهزة الأمن الإسرائيلية نفسها على فشل كل محاولاتها فيما في ذلك اجتياح مدينة ومخيم جنين مطلع شهر تموز الماضي، لتحقيق أهدافها الرامية إلى سحق المقاومة، وفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، ذلك أنه يهيأ لليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل في ظل ما وصل إليه من تحكم في إسرائيل لدرجة الإقدام على إحداث الانقلاب الداخلي في مؤسسات الدولة المدنية، أي القضاء والجيش والشرطة، وفي ظل ما وصل إليه الشرق الأوسط من تآكل داخلي جراء وقوع الحروب الداخلية الأهلية في العديد من أقطاره، وآخرها السودان، وجراء انشغال العالم بحرب باردة على الحدود الشرقية لأوروبا، بين روسيا وأوكرانيا، يهيأ لأركان الحكم في إسرائيل، بأنه قد آن الأوان لضم ليس فقط القدس والجولان، بل الضفة الغربية رسميا ونهائيا لإسرائيل!
لكن الصمود الفلسطيني بالدرجة الأولى، وما وصل إليه حال العلاقات الأميركية الإسرائيلية بدرجة أقل، دفع نتنياهو وبعض قادة «الليكود» للاستجابة إلى الضغوط الأميركية من أجل تقديم ما يطلقون عليه اسم التسهيلات للجانب الفلسطيني، وتلك تعني تقديم شيء ما في الحقل المالي والاقتصادي، وكان «الكابينت» الإسرائيلي اجتمع قبل عدة أسابيع، وإزاء رفض ومعارضة قطب التطرف ممثلا بالوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، خرجت حكومة نتنياهو بجملة من الشروط التعجيزية، التي لا يمكن للجانب الفلسطيني قبولها، من مثل التوقف عن ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في القضاء الدولي، والتوقف عن المقاومة الدبلوماسية لإسرائيل في المحافل الدولية، كذلك التوقف عن دفع رواتب أسر الشهداء والأسرى.
وبعد الفشل العسكري الإسرائيلي في جنين وما بعد جنين، وبعد أن أقدم الائتلاف الحاكم على إشعال الوضع الإسرائيلي الداخلي، بإقرار أول حزمة من خطة تقويض القضاء، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، أي قبل دخول الكنيست في العطلة الصيفية، تقدم «الكابينت» مجددا، بما وصفه بالتسهيلات للجانب الفلسطيني، وقد تلخصت تلك «التسهيلات»، بتمديد ساعات العمل في معبر الكرامة، وذلك تلبية لمطلب أميركي سابق، ولمواجهة التكدس في المسافرين خلال الصيف اللاهب، كذلك تجميد سداد ما يسمى ديون السلطة التي تقدر بمبلغ 500 مليون شيكل لمدة عام، مع أن كل ما يتعلق بالجانب المالي، وفق أوسلو واجب الاتفاق عليه من قبل الطرفين معا، ولا يقر من جانب واحد.
وحقيقة الأمر، أن ما يروج له نتنياهو لتمرير ما يطلق عليه بالتسهيلات عبر «الكابينت» وتجاوز عقبة وزير المال سموتريتش ووزير الأمن القومي بن غفير، وذلك بالقول إنه يسعى لاستقرار السلطة، ومنع انهيارها، إنما هو ذر للرماد في العيون، وذلك لأن هناك حقيقتين تنفيان منطق نتنياهو، وهما، أولا أن السلطة بحاجة إلى الأفق السياسي لتعزيز خيارها السلمي، وثانيا، أن حديث التسهيلات خاصة حين يتضمن الجانب المالي، إنما هو حديث يجري عن حقوق مالية تقوم إسرائيل بالسطو عليها منذ عدة سنوات، وفي ظل حكومتها الحالية ووزير مالها سموتريتش زادت من مستوى السطو، بادعاءات واهية، والهدف معروف وهو الضغط على السلطة لإجبارها على قبول واقع الحال، وأكثر من ذلك القيام بدور وكيل العمل القذر للاحتلال، بعد التوقف عن التفكير والطموح بتحولها إلى دولة مستقلة.
وكل الاقتطاعات من أموال السلطة الناجمة عن تحصيل ما تسمى المقاصة، أي الضرائب على استيراد التجار الفلسطينيين للبضائع من الخارج، ما هي إلا سطو، بما في ذلك اقتطاع المبالغ المساوية لرواتب اسر الشهداء والأسرى، ذلك أن كل دول العالم تقوم بإعالة اجتماعية للأسر التي تفقد عائلها، أيا يكن السبب خاصة حين يقضي هؤلاء في حروب للدفاع عن الوطن، وكل محطات الصراع الميداني الفلسطيني الإسرائيلي، حتى لو لم تقر إسرائيل بكونها مقاومة احتلال من الجانب الفلسطيني، فهي في أسوأ أحوالها حرب بين جانبين، وليست إرهابا كما تدعي من قبل الفلسطينيين، ذلك أن الفلسطينيين الذي يقضون شهداء برصاص القتل الإسرائيلي ليسوا مواطنين إسرائيليين يهدفون للاستيلاء على الدولة، بل يقاتلون من أجل تحرير وطنهم من احتلال خارجي، وأميركا نفسها تدفع مرتبات لعائلات من قضوا من جنودها في حرب فيتنام وغيرها.
المهم في نهاية المطاف، هو ما يحدث فعليا، وإذا كان «غدا لناظره قريب»، فعلينا أن نتابع ما ستفعله الحكومة الإسرائيلية، تجاه الحليف الأميركي، الذي اكتفى بعد أن رفع عقيرته منذ دخول جو بايدن البيت الأبيض، بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وفتح الأفق السياسي، بالفتات المسمى التسهيلات، وذلك لتحقيق هدف مزدوج، أوله فتح الطريق أمام إضافة بايدن لمنجز ترامب المتمثل في اتفاقيات «أبراهام»، أي التوقيع على التطبيع مع السعودية، وثانيه، تعزيز حظوظ بايدن في البقاء بالبيت الأبيض، حيث يواجه احتمال الخروج منه في مطلع العام 2025، تماما كما حدث مع سلفه ترامب.