من حيث المبدأ، لا خلاف بين الاسرائيليين والسعوديين، على تشخيص حالة السعودية، فيما يتعلق بموضوع "ماراثون" التطبيع بينهما... فإسرائيل تعتبر السعودية فريسة ثمينة، والسعودية تعتبر نفسها كذلك، فريسة ثمينة، وكلما صعب أمر "صيدها"، ارتفع ثمنها.
يقف السعوديون على شاطئ بحر "التطبيع" الهادر، الى جانب "المنقذ" الامريكي، لا ليتحدثوا في مدى خطورة السباحة، بل في مدى برودة الماء. فالذي تشير اليه معطيات النبرة الأمريكية والاسرائيلية المرتفعة، حول التطبيع السعودي مع إسرائيل، ورد الفعل السعودي الملفت للنظر في هدوئه وتغاضيه، أن لا جدال حول موضوع التطبيع من حيث المبدأ، اذ يجري النقاش حول شروط ذلك التطبيع، وطريقة إخراجه.
تتعامل السعودية، على ما يبدو، مع التطبيع كأمر قدري وحتمي منذ فترة ليست قصيرة. هذا لا يعني بالضرورة أنها سعيدة به، لكنها في نفس الوقت، ليست بذلك الانزعاج الذي يتطلبه الأمر منها على الأقل شعبيا. لذلك هي تعمل على تبطيء مساره، وتحسين شروطه، وتوضيب إخراجه.
بدا قبول السعودية بالتطبيع واضحا عند إطلاق الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرته للسلام، التي تم تبنيها في مؤتمر القمة العربية في بيروت في العام 2002، لتصبح المبادرة العربية للسلام. بل ربما باستطاعتنا اعتبار مبادرة ولي العهد السعودي فهد بن عبد العزيز في العام 1981 أساسا لذلك.
منذ تلك المبادرة، اتخذت السعودية خطوات "جريئة" باتجاه التطبيع، ففتحت اجواءها أمام الطيران الاسرائيلي. وسكتت، بل وربما شجعت، تطبيع بعض البلدان العربية مع إسرائيل، كالبحرين والإمارات وغيرها. وذهبت في عهد بن سلمان للتحرر الايديولوجي والقبلي المتمثل في الدين والعائلة السعودية، ذلك الذي لا يرتبط بالضرورة مع موضوع التطبيع، لكنه يجعل الطريق اليه بلا ضوابط ولا كوابح داخلية جدية، فيما لو قرر بن سلمان اتخاذ الخطوة الحاسمة باتجاهه.
لكن رغم كل ما اتخذته السعودية في اتجاه التطبيع، فهي على ما يبدو تدرك مخاطره، أو بعضا من مخاطره على الأقل؛ فتجارب التطبيع التي سبقت بين اسرائيل وبعض الدول العربية ابتداء من مصر، اثبتت أن "التعايش" مع إسرائيل لا يخلو من "هيمنتها" على مقدرات تلك الدول، و "مس" بسيادتها، وزيادة في "الحاقها" بها وبالمعسكر الغربي اجمالا.
كما تدرك السعودية ايضا، أن إجراء تطبيع مع إسرائيل دون تحقيق شيء "ملموس" في مجال القضية الفلسطينية، سيبدو تخليا عن تلك القضية تماما كما جرى مع الآخرين، وهم يدركون مدى تأثير التخلي عن فلسطين على مكانتهم في الإقليم. إن قول المطبعين السابقين، بأن تطبيعهم سينعكس ايجابا على فلسطين والشعب الفلسطيني، قد ثبت بطلانه تماما، والسعودية أذكى من اللجوء إلى هذه المقولة، بعد أن رأت ماذا حدث بالنسبة لمن سبقها.
الشروط السعودية للتطبيع
في سياق التطبيع السعودي، نحن أمام مشهد غاية في الوضوح، فإسرائيل صياد ماهر لحوح بانه يدرك قيمة فريسته واهميتها، والسعودية الفريسة القابلة بمصيرها تدرك "غلاوتها" وقيمتها، وتعرف أن "تمنعها" سيزيد من ما ستجني من مقابل، وتعرف أن الوقت لصالحها، لذلك فهي ليست في عجلة من أمرها، خاصة بعد تطبيع علاقتها بإيران. والولايات المتحدة التي تقوم بدور "العراب" -إذ ليس من اللائق استخدام الكلمة المرادفة الأخرى رغم كونها أقرب للمعنى- الذي يبذل جهده بإخلاص وتفان من أجل تقريب اليوم الذي يلتقي فيه الصياد بفريسته.
تتحدث الأنباء عن شروط ثلاثة للسعودية من أجل استكمال التطبيع؛ الأول هو اتاحة الفرصة لها لامتلاك برنامج نووي سلمي، والثاني هو الحصول على الأسلحة الأمريكية المتطورة وعلى الرعاية الأمنية الأمريكية اجمالا، والثالث هو تحقيق تقدم في الشأن الفلسطيني... كما هو واضح، هي في النهاية "شروط" لتحسين تموضع السعودية عند امريكا وحلفائها، وليست لتحقيق مزيد من التحرر والسيادة.
تبذل اسرائيل جهدا كبيرا من أجل الوصول الى ذلك اليوم، الذي توقع فيه مع السعودية، وثيقة التطبيع بينهما. ومع أن نتنياهو معني بأن يكون ذلك انجازا شخصيا له، اضافة لكونه انجاز لدولة اسرائيل، إلا أن الأمر قد "احيل" على ما يبدو الى رئيس الدولة اسحق هيرتسوغ، الذي يعتبر أكثر دبلوماسية وسلاسة وقبولا لدى الامريكيين، من رئيس وزرائه.
لقد حث الرئيس الاسرائيلي في خطابه الأخير في الكونجرس الأمريكي، الولايات المتحدة على الإسراع في تحقيق التطبيع مع السعودية، التي وصفها بأنها "أمة رائدة في المنطقة وفي العالم الإسلامي برمته". كان بذلك يوجه رسالة ليس فقط للأمريكيين، ولكن للسعوديين ايضا، "لطمأنتهم" الى تثمين اسرائيل لهم، وكذلك لتسهيل "استدراجهم".
يشكل التطبيع مع السعودية مسألة غاية في الأهمية، بالنسبة لإسرائيل ولنتنياهو شخصيا، وكذلك للولايات المتحدة والرئيس بايدن. فالتطبيع مع السعودية يفتح الطريق أمام اسرائيل، لمن تبقى في العالم العربي والإسلامي، ويشكل ضربة موجعة للقضية الفلسطينية، كما ويفتح الأبواب أمام استثمارات إسرائيلية هائلة في السعودية وفي المنطقة.
ستوافق اسرائيل على الشروط السعودية، لكنها ستعمل على افراغها من محتواها دائما. في المجال النووي على سبيل المثال، سوف تشترط أن يتم تخصيب اليورانيوم عندها، أو أن يتم تخزينه لديها بعد تخصيبه، وبالتالي تمسك بالبرنامج النووي السعودي بأكمله. وفي موضوع القضية الفلسطينية، سوف تحاول ترك الأمور عائمة كما فعلت مع الآخرين.
ومع أن اسرائيل والولايات المتحدة ترغبان في أن يتم التطبيع مع السعودية بالسرعة الممكنة، إلا أن امريكا، وفي أثناء النقاش حول "الشروط" السعودية، ومحاولتها حل الاشكال المتمثل في الرغبة الاسرائيلية في الاستعجال، والرغبة السعودية في التبطيء، تسعى الى ابتزاز الأخيرة لاتخاذ مواقف أكثر انحيازا لأوكرانيا والغرب، في صراعهما مع روسيا والصين.
صحيح أن الولايات المتحدة "تغاضت" عن الاتفاق السعودي الايراني برعاية صينية، حيث كان ذلك في بعض جوانبه مؤشرا على "ضعف" أمريكي، إذ لم يكن بإمكان أمريكا أخذ دور الصين في ذلك، نظرا لعدم وجود علاقات مع إيران، لكن أمريكا بعد ذلك، تمكنت من إيقاف تجسيد ذلك الاتفاق وتطوره، لينعكس ايجابا على الأرض سواء في اليمن، أو في سوريا، وفي المنطقة بمجملها.
في خضم الحديث المتصاعد عن التطبيع السعودي الاسرائيلي، وتفهم أمريكا رغبة السعودية في ابطاء ذلك وتأجيله، "سمحت" الولايات المتحدة بتمرير دعوة الرئيس الأسد الى مؤتمر القمة العربية في الرياض، لكنها "فرضت" دعوة الرئيس الاوكراني زيلنسكي الى المؤتمر، ليتحدث الى كل الزعماء العرب، ويبلغهم "دفاع" اوكرانيا عن المسلمين. ثم جاء المؤتمر الذي دعت له السعودية مؤخرا في جدة، والذي ضم ممثلين عن حوالي ثلاثين دولة "لتعزيز الحوار والتعاون الدولي" لحل الأزمة الاوكرانية.
يشكل مؤتمر جدة، وعدم دعوة روسيا له، "فخا" أمريكيا "مكشوفا" أمام العلاقات السعودية الروسية "الجيدة" اجمالا. فهو يضع السعودية مباشرة في مواجهة روسيا، إذ على السعودية كراع للمؤتمر، أن تسوق نتائجه لروسيا، فإن هي قبلت بتلك النتائج، تكون قد خضعت لذلك الابتزاز الأمريكي "المحمول" سعوديا، وإن رفضت فإنها تضع العلاقات الروسية السعودية في وضع حرج، وفي كلتا الحالتين ستكون الولايات المتحدة سعيدة بما يجري.
لا أعتقد أن هذه "المبادرات" السعودية تجاه اوكرانيا، بما في ذلك المساعدات المالية لها، تأتي عن قناعات سعودية ذاتية، في وقت يتحدث فيه السعوديون عن اتجاههم "للحياد" في المسألة الاوكرانية، وفي القضايا الدولية المختلفة. ان هذا الأمر كما أراه، هو الثمن الذي تدفعه السعودية نتيجة "تباطؤها" في عملية التطبيع مع إسرائيل.
على ما يبدو، فإن بن سلمان في وضع لا يحسد عليه فيما يتعلق بالتطبيع، فمن ناحية، تملك الولايات المتحدة من ادوات الضغط عليه، وعلى بلاده، ما يجعل رفضه "للإرادة" الأمريكية شبه مستحيل. لكنه في نفس الوقت، يدرك أن ذهابه للتطبيع سيقضي على "مشروعه" في تزعم العالم العربي، وسيضع بلاده في دائرة الهيمنة الاسرائيلية، والابتزاز الاسرائيلي، وسيكون موضوع حقوق "يهود خيبر" مطروحا عند كل زاوية، في مسار العلاقات السعودية الاسرائيلية.