تعتقد إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أنّها بحاجة وتستطيع إعادة توجيه البوصلة السعودية، إلى سابق عهدها في العلاقة مع واشنطن.
لبعض الوقت بدا كأنّ الولايات المتحدة قد خفّضت وجودها واهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، خصوصاً منطقة الخليج، الأمر الذي حفّز المملكة العربية السعودية على البحث عن مصالحها الوطنية، والبحث عن خيارات أخرى، نحو تنويع وتعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا وتركيا، والتوقيع على اتفاقٍ مع إيران في العاصمة الصينية بكين، يقضي بإعادة العلاقات الدبلوماسية ويفتح المجال لتبرير الصراع، وتبديد المخاوف في منطقة الخليج العربي.
«العربية السعودية» اتخذت جملةً من الخطوات التي أزعجت واشنطن، خصوصاً ما يتعلّق بسياسة «أوبك بلس»، وتحديد كميات إنتاج النفط فضلاً عن إبداء الرغبة في الانضمام إلى مجموعة «بريكست»، وخطوات أخرى، تؤكّد جدّية التعامل مع الخيارات المستحدثة.
هذه السياسة، التي اتبعتها السعودية، شكّلت صفعةً قويّة لإدارة بايدن وقدّمت مؤشّراً على فشل سياسات الإدارة الأميركية، وأحدثت شرخاً في ثقة دول المنطقة إزاء الاعتماد على الحماية الأميركية وقت الحاجة إليها.
تُدرك الولايات المتحدة أنّها تخسر المزيد من مواقعها، وبالتالي مصالحها، في حال استمرّت في تركيز الاهتمام على الحرب في أوكرانيا، ذلك أنّ الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة تسارع إلى ملئه الصين وروسيا، في الوقت الذي تمثّل فيه منطقة الخليج والشرق الأوسط عموماً ذخراً إستراتيجياً للولايات المتحدة ومصالحها الحيوية.
بايدن الذي لا يملك الحدّ الأدنى من الثقة بإمكانية فوزه في الانتخابات الرئاسية التي ستجري نهاية العام المقبل، بات يبحث عن اختراقٍ إستراتيجي، فشلت إدارته في تحقيقه من خلال انخراطها في الحرب ضدّ روسيا، فيما هي مقبلة على فشلٍ آخر وربّما أكثر في جنوب شرقي آسيا، ومناطق أخرى عديدة في العالم.
لهذا تراهن إدارة الرئيس الأميركي على إمكانية تحقيق صفقة تؤدّي إلى اتفاق بشأن تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
الوقت لدى الإدارة الأميركية ينزف، دون أن تحقق تقدماً ملموساً، خاصة أنّ إسرائيل التي يحكمها ائتلاف حكومي شديد التطرُّف، يشكّل عقبةً كبيرة تهدّد بالإطاحة بهذه الآمال.
في الحقيقة، فإنّ مسألة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية تنطوي على تعقيدات هائلة، تختلف كلياً وجذرياً عن «اتفاقات أبراهام» التي تم توقيعها مع الإمارات والبحرين والمغرب.
السعودية دولة كبيرة، وقويّة، وتمتلك قدراتٍ اقتصادية وسياسية وعسكرية لا يُستهان بها، وهي زعيمة العالم الإسلامي، وصاحبة «مبادرة السلام العربية»، ولذلك فإنّ قيادتها تبحث هي الأخرى عن مصالحها الوطنية، وعن تحقيق إنجازات سياسية وتسويات تاريخية.
لدى السعودية مطالب وشروط مُحقّة لا تملك الإدارة الأميركية الكثير من الأسباب لرفضها منطقيّاً، إلّا إذا أصرّت الإدارة على التمسُّك بسياسة ازدواجية المعايير لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
الولايات المتحدة تتواطأ مع إسرائيل التي تمتلك أسلحةً نووية، ولذلك من حقّ السعودية أن تحظى بدعمٍ لبرنامجٍ نووي سلمي خاص بها. من حول السعودية، دول تمتلك أسلحةً نووية، من الهند إلى باكستان، وإسرائيل، وإيران على الخط، ولذلك فإنّ من حقّها أن تملك مثل هذه التقنية، طالما أن لديها الإمكانيات المادية والأسباب والدوافع السياسية والأمنية.
الولايات المتحدة تقدّم لإسرائيل أكثر الأسلحة تطوُّراً، فإن كانت مخلصة للتحالف مع السعودية، التي لم تخذلها يوماً، فلماذا عليها أن تعارض تقديم مثل هذه الأسلحة للسعودية، أم أن لديها ما يدعو للشكّ في إمكانية استخدامها في يومٍ من الأيّام ضدّ إسرائيل، أو المصالح الأميركية في المنطقة؟
والولايات المتحدة تعلن التزامها بـ»رؤية حل الدولتين»، ولكنها لم تبذل أيّ جهدٍ لإقناع أو إرغام إسرائيل، وهي قادرة على ذلك لتحقيق السلام في المنطقة على أساس «رؤية الدولتين» وقرارات الأمم المتحدة.
وإذا كانت الولايات المتحدة ستعوّض بعض الشروط السعودية، بتوقيع اتفاق يُلزم أميركا بتأمين حماية كاملة للمملكة في حال تعرُّضها لعدوان، فإنّ مثل هذا الاتفاق الصعب في عالمٍ متحرّك بسرعة، لا يمكن أن يؤهّلها للنجاح، طالما أنّ إسرائيل ترفض الشروط المتعلّقة بعملية السلام وتحقيق «رؤية حل الدولتين».
بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته إيلي كوهين، يبُثّان آمالاً كاذبة بشأن تقدم إمكانية تحقيق هدف التطبيع مع السعودية، رغم أنّ المؤشّرات الملموسة لا تشير إلى ذلك.
صحيح أنّ السعودية فتحت نافذةً صغيرة لخلق شيءٍ من الأمل، لكنّ بعض التسهيلات التي تقدّمها للإسرائيليين من شأنها أن ترتدّ على إسرائيل بمزيدٍ من التناقضات؛ بسبب مسؤوليتها عن فشل تحقيق «التطبيع».
يقول حاخام إسرائيل: إنّ أعداد الإسرائيليين تزداد في السعودية، وإنّ «التطبيع» أقرب إلى التحقيق، وإنّ «التطبيع» مع السعودية يختلف عنه في مصر والأردن، غير أنّ ذلك يعطي مؤشّراتٍ زائفة.
يائير لابيد زعيم «المعارضة» يحذّر من أنّ اتفاقاً بين واشنطن والرياض سيؤدّي حتماً إلى سباق تسلُّحٍ نووي، وفي ذلك خطر وجودي على إسرائيل.
يبدو لابيد مُحقّاً في ذلك، ويعكس وجهة نظر عامّة في إسرائيل التي لا تثق بأيّ طرفٍ بما في ذلك الولايات المتحدة، ولكن كيف يمكن أن يتمّ اتفاق بين واشنطن والرياض من دون إسرائيل التي يترتّب عليها أن تدفع جزءاً كبيراً ومهمّاً من ثمن التوصّل إلى اتفاقٍ كهذا؟
أول من أمس، فاجأت السعودية إسرائيل وفلسطين وأطرافاً عديدة، عَبر رسالة سياسية لا يُخطئ أهمّيتها جاهلٌ في السياسة، في اختراقٍ تاريخي لطبيعة العلاقات السعودية الفلسطينية، تقرر المملكة تعيين السفير نايف السديري وزيراً مُفوّضاً فوق العادة لدى السلطة الوطنية الفلسطينية، ومُفوّضاً عامّاً في القدس.
السفير السعودي والقنصل العام لا يقيمان في رام الله، ما يحمل رسالة لإسرائيل تؤكّد جدّية السعودية إزاء التزامها تجاه الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
وجود التمثيل السياسي السعودي لدى السلطة الوطنية في الأردن يشير إلى أنّها ترفض أن يكون ذلك مؤشّراً نحو أن تكون خطوةً باتجاه «التطبيع»، والأمر سيختلف لو كان الوجود الدبلوماسي السعودي في الضفة الغربية.
إذا كانت هذه رسالة دعم وتأكيد لالتزام السعودية إزاء الحقوق الفلسطينية، فإنّها، أيضاً، رسالة جدّية لإسرائيل، وطُعم لها إن أرادت التوصل لـ»اتفاق تطبيع»، وإلّا وعلى الأرجح أنّه سيقدّم ذخيرة لـ»معارضين» إسرائيليين، سيحمّلون حكومتهم المسؤولية عن إخفاقها في تحقيق السلام، وإمعانها في دفع الدولة نحو الهاوية.