منذ العام 1980، دخل البيت الأبيض الأميركي سبعة رؤساء، هم على التوالي: الجمهوريان رونالد ريغان وجورج بوش الأب، والديمقراطي بيل كلينتون، والجمهوري جورج بوش الابن، والديمقراطي باراك أوباما، والجمهوري دونالد ترامب، ثم الديمقراطي جو بايدن، ومنذ ذلك الوقت، وحتى دونالد ترامب، نجح الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون باستثناء جورج بوش الأب في انتخابات الولاية الثانية، حيث لم يخفق منذ الديمقراطي جيمي كارتر الذي مكث في البيت الأبيض رئيساً مدة ولاية واحدة ما بين عامي 1976 - 1980، سوى جورج بوش الأب، وربما كان السبب في ذلك، هو أن نجاحه في خلافة رونالد ريغان، بتوليه الرئاسة ما بين عامي 1988 - 1992، كان تجاوزاً للتقليد الثاني، وهو إضافة إلى نجاح الرؤساء في انتخابات الولاية الثانية، التداول ما بين الحزبين الكبيرين، بتولي كل منهما الرئاسة مدة ولايتين متتابعتين، ثم تولي الحزب الآخر الرئاسة تالياً.
يلاحظ ارتباطاً بتلك الفترة التي عرفت بذلك استقراراً وتداولاً عادلاً للسلطة ما بين الحزبين الأميركيين، أن عقد الثمانينيات، أي خلال حكم ريغان، شهد سباق التسلح ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت أوجه، حيث أطلق الرئيس المحافظ ريغان الذي كان يمثل المحافظين الجدد ما سمي حرب النجوم، والتي كانت آخر فصل من فصول الحرب الباردة بين الدولتين العظميين، حيث شهد عهد جورج بوش الأب انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومة الدول الشيوعية التي كان يقودها كقطب عالمي، وهكذا فإن العقود التالية قد شهدت استقرارا - كما أسلفنا - ذلك أن قيادة العالم قد سجلت للولايات المتحدة، خلال السنوات ما بين عامي 1990 - وحتى 2016 على وجه التقريب، أي العام الذي تولى فيه ترامب الحكم.
قبل ذلك شهدت ثلاثة عقود تداول السلطة ما بين كلينتون، جورج بوش الأب، وباراك أوباما، بواقع ولايتين لكل منهما، لكن ولاية ترامب بدأت بمحاولة منه لكسر شوكة كوريا الشمالية، لكنه سرعان ما حول بوصلته بتشجيع إسرائيلي إلى إيران، حيث تراجع عن الاتفاق الدولي الذي كان قد وقعه أوباما عام 2015، أي خلال العام قبل الأخير من وجوده في البيت الأبيض، مع مجموعة الدول التي سميت الخمس +1 مع إيران في إشارة إلى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وفي محاولة من ترامب لكسب التنافس الاقتصادي بين بلاده والصين، جاء إلى المنطقة العربية، حيث طالب بمئات مليارات الدولارات، كذلك رفع من قيمة الضرائب على البضائع مع حلفائه، بمن فيهم أوروبا وكندا، وجاءت جائحة كورونا لتثقل كاهل الاقتصاد الأميركي، وتجعل من قدرته على البقاء أولاً لعقود قادمة أمراً غير مؤكد.
المهم أن ترامب الذي لم يحقق نجاحاً يذكر، سعى إلى إنهاء الصراع في الشرق الأوسط، لضمان تصويت اليهود الأميركيين، الذي ظلوا ومنذ عهود طويلة، وعبر اللوبي الصهيوني، يؤثرون كثيراً في حظوظ مرشحي الرئاسة والكونغرس، فيما صارت إسرائيل تالياً هي من يتحكم إلى حدود كبيرة في مستقبل الطامحين لدخول البيت الأبيض، لذا قدم ترامب نفسه كأكثر الرؤساء الأميركيين انحيازاً لإسرائيل، وبعد أن شهد العام 1992 ضغطاً صريحاً أميركياً إبان عهد جورج بوش الأب، الذي بإجباره اليميني الإسرائيلي المتشدد في ذلك الوقت رئيس الحكومة إسحق شامير على المشاركة في مؤتمر مدريد رغم الوجود الفلسطيني ضمن الوفد الأردني/الفلسطيني المشترك، أظهر قوة أميركا كزعيم للعالم، شهدت الأعوام التالية «صموداً» إسرائيليا في مواجهة الرؤساء الأميركيين الأقوياء، خاصة كلينتون وأوباما، اللذين حاولا التوصل للحل النهائي ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ففشلوا، في ظل حكومات إيهود باراك وبنيامين نتنياهو.
ورغم كل ما قدمه ترامب لإسرائيل، أولاً بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، متجاوزاً بذلك ما كان يقوم به الرؤساء الأميركيون منذ عقود، باستخدام حق الفيتو ضد قرار الكونغرس بالخصوص، ثم قبول القرار الإسرائيلي بضم الجولان، ثم سعيه المحموم لفرض صفقة العصر، وحين فشل عوضها باتفاقيات أبراهام، إلا أنه رغم ذلك فشل وهو الرئيس في الفوز بالولاية الثانية، وواضح أن ذلك يعود لأسباب داخلية، حيث لم يكف انحيازه لإسرائيل في إبقائه بالبيت الأبيض، ومثل هذا المصير يخشاه الرئيس الحالي جو بايدن وهو في سنته الثالثة من ولايته الأولى، لذا يسعى بشكل جدي ومحموم لدخول معترك الانتخابات وفي جعبته إنجاز ما، وذلك بعد أن أخفق في سياسته الخارجية، التي شهدت محطات بائسة، من سحبه القوات الأميركية بشكل مرتبك من أفغانستان، إلى إخفاقه بسبب الرفض الإسرائيلي في العودة لاتفاقية العام 2015 مع إيران، إلى إحراج إسرائيل له في كل ما تعهد به على الصعيد الفلسطيني، من إعادة فتح القنصلية بالقدس، إلى إعادة فتح مكتب م ت ف في واشنطن، إلى التسهيلات المعيشية وخفض العنف وصولاً لفتح الأفق السياسي.
ثم وقوعه في الورطة الكبرى الناجمة عن دعمه وانحيازه لأوكرانيا، بعد جر روسيا للحرب هناك، بهدف احتواء وإخضاع روسيا، للإبقاء على الصين وحيدة دولياً، ليتمكن منها لاحقاً، ذلك أنه بعد مرور عام ونصف العام على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، صمدت روسيا، عسكرياً وداخلياً واقتصادياً، بل بدأت حتى بالتدخل في النيجر، في قلب أفريقيا بمنافسة الغرب مجدداً، على النفوذ الدولي، وليس أدل على ذلك من اللقاء الروسي الأفريقي الذي عقد الشهر الماضي في موسكو، على طريق قمة العشرين، وعشية قمة بريكس التي تضم روسيا والصين مع الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وينظر إليها العالم على أنها منافس دولي للغرب.
ومع صعوبة نجاح بايدن حتى في التقدم للانتخابات التي ستُجرى في شهر تشرين الثاني من العام القادم 2024، والتي قد تكون «كلاكيت ثاني مرة» أي نسخة مكررة عن السابقة، أي بينه وبين ترامب، في توسيع ملف اتفاقيات أبراهام، بضم السعودية، فإن التوصل للاتفاق مع إيران، ليس حول برنامجها النووي، ولكن التوصل لمقايضة خمسة أميركيين محتجزين لدى طهران منذ سنوات، مقابل فك التجميد بحق عشرة مليارات من الدولارات الإيرانية، قد يفضي إلى ما يمكن اعتباره نجاح بايدن في الفكاك من الأسر الإسرائيلي، الذي كبل يديه وقدميه، خاصة فيما يخص الملف الإيراني، حيث تعتبر إسرائيل إيران حالياً عدوها الأول، وهي تجعل منها فزاعة لإقناع الدول العربية - الخليجية خاصة، بعقد اتفاق التطبيع معها، وتجاوز شرطها بانسحابها من الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة، حيث نجحت نسبياً مع الإمارات والبحرين.
قد يبدو الاتفاق ما بين واشنطن وطهران صغيراً وغير مهم، لكنه في حقيقة الأمر يعتبر مؤشراً بالغ الأهمية، فهو يأتي أولاً بعد تطبيع العلاقات بين إيران وكل من السعودية والإمارات، كذلك هو يأتي كرفض أميركي لمحاولة إسرائيل زج الجميع، بمن فيهم الأميركيون في دائرة العداء ومن ثم الحرب مع إيران، وربما أيضاً كرد أميركي على عدم انضمام إسرائيل للحلف الذي شكلته أميركا من الغرب الأوروبي ضد روسيا على خلفية الحرب مع أوكرانيا، والأهم هو ما أعلنت عنه إسرائيل نفسها - ربما لتضخم الاتفاق الأميركي الإيراني - من أنه شمل اتفاقاً غير رسمي، على تخفيض التخصيب الإيراني لليورانيوم.
المؤكد بالطبع، هو أن الاتفاق، الذي جاء موازياً لاتفاق كان مرتقباً منذ دخل بايدن البيت الأبيض، أي الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، سيعتبر إنجازاً لبايدن في محاولته البقاء في البيت الأبيض، كذلك سيعني انتعاشاً للاقتصاد الإيراني، وإعلاناً أميركياً في نفس الوقت عن التوقف عن المراهنة على العقوبات الاقتصادية لإسقاط النظام الإيراني، أو إخضاعه للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وهو في نفس الوقت لطمة على وجه إسرائيل، ومظهر من مظاهر الافتراق ما بين واشنطن وتل أبيب، حيث على إسرائيل خاصة حين ينجح مرشح في الدخول للبيت الأبيض وهو مناهض لها، أن تبدأ منذ اليوم الاعتماد على نفسها، دون الحماية العسكرية والسياسية والاقتصادية الكاملة من النظام العالمي.