توطئة : وجهة النظر أْدناه ليست بديلة ، علاوة على ( أن الفلسطينيين يعرفون كل المصطلحات ) صحافي فرنسي ، ومتعذر نشوء قوة بديلة أو رؤيا بديلة في المرحلة التاريخية الراهنة . فالمسيرة الفلسطينية تجددت مرتين بولادة الفصائلية الفدائية ارتباطا بهزيمة حزيران 67 ونوياتها قبلئذ، وولادة الإسلام المقاوم تواشجاً مع الانتفاض الشعبي 87 وجذوره سبقت ذلك . وكل الذين حاولوا، على امتداد عقود كانوا مجرد صرخات منفصلة عن الحركة الواقعية للشعب ولم ينجزوا مجرد بنية محدودة قوامها ألف عضو . فالسياسة قوى متصارعة وليست مجرد تهويمات أكاديمية غير منغمسة بالتضحيات والعمل الدؤوب في أوساط الجماهير .
ومهما تنوعت الأفكار والمبادرات فلن تستطيع القفز عن مرحلة التحرر الوطني التي تستمر باستمرار الصراع مع المستعمر فهنا ( التناقض الرئيس والأساس) د. حبش، وان كانت المرحلة تشمل تناقضات أخرى بما يتخللها من جدلية . فالنضال التحرري الوطني والقومي هو ( الحلقة المركزية التي تقطر الحلقات الأخرى ويسكب فيها الجهد الأساس) لينين.
سئل اينشتاين وهو اشتراكي الميول حسبما جاء في مذكراته ( هل أنت عالم شمولي؟) أجاب ( اعمل في حقلي ولا ادعي أكثر من ذلك ) ولينين أجاب عن سؤال ( هل الماركسية شمولية ؟ ) ( إنها قوة تغييرية ضد الاستغلال الطبقي والاضطهاد القومي والديني والجنسوي ) وهي (مجبرة على تمثل كل متغير جوهري )انجلز، لأن ( شجرة الحياة خضراء والنظرية رمادية ) سيما والمرحلة تشهد قفزات الثورة التقنية والذكاء الاصطناعي والثورة الكيماوية ... ولا يخفي على احد أبعاد انهيار القلعة السوفيتية وما تلاها من انهيارات وما أصاب المسيرة الفلسطينية في مرحلة أوسلو وقبلهما انهيار التجربة الناصرية وما آلت إليه المشروعات القطرية التي قادتها البرجوازية القومية .. كل ذلك وسواه زعزع الكثير من البديهات بما اوجب مراجعات نظرية جدية .
إنني من جيل عاصر مقولة الدكتور فيصل دراج ( التنظيم الأكبر له التمثيل الأكبر ) لا الكفاءة الأفضل والأكثر إنتاجية ، وحقبة لم تأبه لمقولة غرامشي ( يمكن أن تقود أقلية طليعية الأغلبية ) ناهيكم عن طغيان القول السياسي ومحدودية تأثير القول الثقافي الحداثوي التحرري ، وافتقار العملية التعليميه ، التي اتسعت أفقيا وعموديا ، لمنهجية النقد والتحليل والتركيب ... وهنا يجدر تصويب المقولة الشائعة ( في البدء كانت الكلمة ) فالمسيح قال ( في البدء كانت الكلمة ، والكلمة كانت الله) أما المشروعات الثقافية فقد استبقت تاريخيا المشروعات السياسية، مهدت لها سواء في العقائد القديمة والديانات اوالفكر البرجوازي والثورة الصناعية أو المشروعات الوطنية والاشتراكية دون أن يصل التاريخ مرحلة ( التحرر الشامل للإنسان ) ماركس ولكنه يمضي إليها بدأب ، فأين كانت البشرية مذ ثلاثة قرون وأين أصبحت بون شاسع.
التاريخ صيرورة والفكر صيرورة وأفضل من عبر عن ذلك بلغة مكثفة هو غرامشي "البراكسيس" والبراكسيس يتمظهر اليوم أكثر ما يتمظهر في القفزات العلمية الاقتصادية، الثقافية ، الاجتماعية لدولة تقارب 1.5 مليار نسمة هي الصين الشعبية بحزبها الشيوعي الذي أشارت أخر وثائقه أن قوامه تجاوز 98 مليونا ومنظمة شبابية مكونة من 78 مليونا، والتحول الانعطافي في القارة اللاتينية التي يتبوأ فيها اليسار ثلاثة أرباعها، وما تشهده إيران والهند من تراكمات وقفزات وثبات روسيا في مواجهة حلف الناتو وأحادية القطبية .. دون نسيان الحلقة السورية واللبنانية وما أصبح عليه محور المقاومة من إمكانات وتطلعات في الإقليم والكمون الملحوظ في الحلقة الجزائرية والجنوب افريقية والانتفاض في غير بلد إفريقي ضد الإرث الاستعماري .
لن يتوقف التاريخ وسقطت تمنيات فوكياما (بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ ) واهتزت الليبرالية الجديدة ( ميلتون فريدمان وسواه، حتى أن الديمقراطية الليبرالية وإحدى صرعاتها قوننه المثلية والترويج لها تتلقى السهام من كل الاتجاهات ، وهذا حال الهيمنة التي تتراجع بتواتر ( هنا القلعة فاقفز هنا) مأثور ألماني ، أي أن المعطيات أعلاه باتت حقائق على الأرض إنكارها في عداد إنكار للواقع.
وعليه تتكرر سردية أن أوضاعنا الفلسطينية هي الأخطر والأصعب وان القضية مهددة والحقوق الوطنية على كف عفريت ويتردد ذلك بغزارة وبلاغة لغوية وصياغات متعددة إلى درجة أن تشكل مرجعية للإحباط والمحبطين .
هل حقاً الأمر كذلك ؟
لقد تعرضت غير مره للتحولات العالمية والاقليمة أسوة بكثيرين غيري وتصب كلها في طاحونة النضال التحرري للبشرية وهذه حقائق لا صخب فيها وبالتالي انحسار الهيمنة وتأسيس نظام دولي جديد أكثر عدالة، بما ينعكس على النضال العربي والفلسطيني، وفي حقل المعطيات المباشرة الملموسة ":
1: انتقال مركز ثقل النضال الفلسطيني من الخارج للداخل، فلأول مرة تنهض مقاومة بعشرات اللالاف ( 72 ألف مقاتل ) في غزة، ونويات فدائية تتنامى في الضفة ووطنية فلسطينية جياشة تعبر عن نفسها بأشكال متعددة في أرجاء الوطن بلغت ذروتها في أيار 2021 ( سيف القدس) والمعارك اللاحقة التي لم تنطفئ جذوتها وفي الاضرابات الجماهيرية العامة والمواجهات الشعبية ووو... ناهيكم عن الكمون الذي قد يشتعل في نهوض شعبي عارم سيما وقد انحسرت الأوهام على تسوية أو مسار تفاوضي ، فلا احد وازن في الساحة الفلسطينية رسميا أو شعبيا ، قوى منظمة أو غير منظمة، يراهن صراحة اليوم على الإدارة الأمريكية أو حكومة تل أبيب ، رغم التباين في سبل المواجهة والتزامات أخرى الامر الذي يستدعي تغذية التيارات التحرريه أينما كانت.
وكل الجهود الدؤوبة منذ عام 67 حتى اللحظة لعزل المقاومة عن بيئتها الشعبية لم تحصد سوى الريح. فالشعب أنتج ركيزة المقاومة في الخارج والمخيم حماها بدمه، وهذا حاله اليوم في الداخل ، وتكلل ذلك بأبهى صورة بأهالي مخيم جنين الذين فتحوا أبواب بيوتهم للمقاومة وأمر له دلاله ما تفوهت به إحدى الأمهات الجليلات في استقبالها لوفد شعبي ( لا نريد طعاما ولا لباساً ، يكفي أنكم معنا، لي عشرة شهداء فكل الشهداء أبنائي ) ألا يتجاوز هذا المشهد الحي التراجيديا الإغريقية وبلغة الأدب الا تتجلى هنا البطولة الايجابية الجماعية لا السلبية ، ولعلها ترفع من معنويات المحبطين ومن أضاعوا البوصلة.
2: ما بلغه محور المقاومة من تركيم وتصميم ، وهو ينتقل اليوم من الدفاع إلى بدايات الهجوم بعد أن امتص " عشرية النار" وفي مقدمة المحور قوة حزب المقاومه اللبناني الذي حرر عام 2000 وانتصر عام 2006 ولم يتلوث بالفساد وامراض المشهدية وقائدة الاستراتيجي المرموق والموثوق ودقة تحليلاته بعيداً عن الضجيج والمبالغات وقد ابتكر مصطلح (الكيان المؤقت) تناغما مع ما اصبحت عليه خارطة الصراع اي اكثر من نصف لبنان واكثر من نصف العراق واكثر من نصف اليمن واكثر من نصف فلسطين، فضلا عن نظام دمشق بجيشه المكون من 200 الف مقاتل ومثلهم قوة رديفة، رغم ما اصابه من استنزاف وتحديات .قال الرئيس الراحل حافظ الاسد للدكتور حبش ( لدي صواريخ بعيدة المدى ولا حاجة للجعجعات ) اما العمود الفقري واليد الطولي فهي الجمهورية الايرانية ( 86 مليون بمساحة 1.6 مليون كم2 ورابع دولة نفطية وثاني دولة غازية وصواريخ باليستية يصل مداها 2 الف كم برؤوس متحركة واقوى سلاح بحرية في الاقليم وذكاء اصطناعي وطائرات مسيّرة ثبتت اهميتها) وهناك قوى شعبية مرشحة للانخراط في جبهة الصراع، وربما دول ايضا .
من كان ليصدق ان امريكا القوة الاعظم سوف تندحر في فيتنام والعراق وافغانستان ...؟
صحيح ان الحرب الاقليمية ليست على الابواب ،ولكن الصراع على مستقبل الاقليم يفضي لذلك . وعلى رأي ماركس السياسة لا تقاس بالسنوات بل بالمتغيرات وفي رايي ان جوهرها ليست اخباريات وسائل الاعلام بل اتجاه الحركة ....ولا حاجة للاستطراد بالذهاب للانقسام العمودي في المجتمع الاسرائيلي فهو انقسام حقيقي بين تيارات علمانية واخرى دينية ومن الصعب الجزم بمآلات او حجم اثارة ، هناك مقاربة تقول بأنه ذاهب للتصعيد واخرى تقول بامكانية الوصول لتوليفة بين تيارات في الحكومة واخرى في حركة الاحتجاج، وثالثة بأن الحكومة الحالية تلفظ انفاسها الاخيرة ورابعة بأن الائتلاف الحكومي باق لبعض الوقت تحركه نزعة فاشية منفلتة ضد الفلسطينيين وعنوانها حسم الصراع وضم الضفة الفلسطينية المحتلة .
واختم مقالتي
سواء تعاظمت الفاشية العنصرية أم لم تتعاظم (لتأتي العاصفة بشدة اكبر) مكسيم غوركي فاحلام " حسم الصراع بتوجيه ضربة قاضية للنضال التحرري الفلسطيني وإزاحة القضية الوطنية من جدول أعمال التاريخ هو اقرب للجنون، فهذا جرّب على امتداد قرن ويزيد وأخفقت مذابح عسكرية وسياسية عديدة. أما الجنون ( فهو أن تتبع نفس الطرائق وتتوقع نتائج مغايرة) اينشتاين فالشعب الفلسطيني تجاوز 15 مليون نسمة إضافة لمئات الآلاف من أمهات فلسطينيات وآباء غير فلسطينيين ومليون شهادة جامعية ويدرس هذا العام في جامعات الضفة وغزة 250 ألفا وأكثر من 60 ألفا في جامعات 48، والتركيبة الطبقية تتبلور بتدرج والمرأة شريك في قوة العمل بنسبة تصل 20% والإعلام والمشهد الثقافي والبحثي والفني يفور رغم الثغرات ، وثمة جيل شبابي واسع يصطخب بطاقات واستعدادات لا ضفاف لها (أن حزبنا حزب الشباب والشباب أول من يبادر إلى التضحية ) حضرت كلمات لينين هذه في المسيرة الفلسطينية منذ البدايات، منذ الدوريات الأولى التي عبرت النهر وصحراء سيناء وهم القابضون على الزناد في غزة وجنين وكل مكان ومن انتزع راية النصر في لبنان والعراق ومن قاتل ببسالة في سوريا واسقط مؤامرات دولية. فهل يعتقد هذا المأفون أو ذاك انه قادر على إلغاء حركة التاريخ ؟ وكيف يفسر أن الجيش الذي لا يقهر يتفادى مواجهة واسعة مع المقاومة في لبنان وغزة فيما تعظمان من قدراتهما ! .
فلسطين حيه ووجدت لتبقى ، ومرّ على ترابها إمبراطوريات عظمى منذ أربعة آلاف عام ، كلها ذوت وعاشت فلسطين ، والزمن هو زمن انتصار الشعوب مهما اشتدت المصاعب والاختلالات لشعب صامد ويقاطع ويقاوم ، الكبار يموتون والصغار يقاومون) وان ( يتحول لغبار الأرض) مستحيل، أما الجديد والاستراتيجي فهو تشابك القضية الفلسطينية بالقضايا العربية والإقليمية على نحو يضع على الطاولة ليس حسم الصراع مع الفلسطينيين بل حسم الصراع في الإقليم .