قمة العشرين تؤكد أن العالم ليس أميركياً

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 


بعد قمة بريكس، انعقدت القمة الثامنة عشرة لمجموعة العشرين في نيودلهي بالهند، لتؤكد على الأهمية المتزايدة للاقتصاد كمحدد لاصطفافات الدول، ومواقفها وعلاقاتها فيما بينها، كذلك لتشي بأن العالم يتغير ويتداخل على الأساس الاقتصادي البحت، دون إيلاء الكثير من الاعتبارات لطبيعة النظم السياسية، إن كانت ديمقراطية أو دكتاتورية، لكنه وعلى هذا الأساس، يؤكد بشكل متزايد، صعوداً متواصلاً لمكانة الاقتصاديات القوية الناشئة، حيث لم يعد عالم اليوم، على ما كان عليه حال عالم الأمس، وبالتحديد عالم ما بعد الحرب الباردة، الذي كان العالم بأسره يعتبر في قبضة الولايات المتحدة الأميركية، أو تحت سيطرتها، أو بأقل العبارات وقعاً، ضمن زعامتها الكونية الوحيدة.
ومجموعة العشرين، تأسست عام 1999، وإذا كانت «بريكس» ظهرت بخمس دول، تعتبر كلها من خارج إطار دول الغرب، وتمثل دول الشرق والجنوب العالمي، فإن مجموعة العشرين تضم عشرين دولة من الشرق والجنوب والغرب، وهي حالياً تمثل نحو ثلثي سكان العالم، وأكثر من 84% من الناتج المحلي العالمي، ونحو 79% من حجم التجارة العالمية، وهي تضم الدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى دول بريكس، ومجموعة السبع الكبار في الاقتصاد العالمي، أي أنها على قدر كبير جداً من الأهمية، وهي تكاد تمثل الأمم المتحدة على الصعيد الاقتصادي، لذا فإن قراراتها وما يتخلل اجتماعاتها يعتبر مؤشراً هاماً على ماهية الطريق الذي يسير عليه العالم.
وما بين دورتين، أي ما بين تلك القمة التي انعقدت في نفس موعد القمة التي جرت قبل يومين في عاصمة الهند، نقصد تلك التي انعقدت في بالي/اندونيسيا، بعد أشهر من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث حاول الرئيس الأميركي جو بايدن، أن يحاصر الرئيس الروسي، ويدفع دول مجموعة العشرين لتأييد الموقف الأميركي من تلك الحرب، فإن ما نجم من اتفاقيات وكذلك من بيان ختامي لهذه القمة يوضح ما يحدث في العالم من تغيرات ذات طابع سياسي، وإن كانت تصدر عن قمم اقتصادية، أوضحها ما يقول بأن العديد من التجمعات الدولية، باتت تحتل مكانة من الأهمية تظهر بأن الأمم المتحدة لم تعد هي المكان الوحيد الذي يجمع العالم، كذلك بأن العالم لم يعد «عالم القطب الوحيد_ الأميركي»، وأن اقتصاديات أخرى غير تلك التقليدية بدأت تعكس حجمها الاقتصادي في حقل تأثيراته الدولية، نقصد اقتصاديات مثل الصين، الهند، البرازيل، السعودية والإمارات، بعد أن كان عالم الكبار في الاقتصاد يقتصر على السبع الكبار: أميركا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، اليابان، ايطاليا وكندا.
وقمة العشرين في الهند، أظهرت مجدداً بعد قمة بريكس التي انعقدت الشهر الماضي في جنوب أفريقيا، قوة ومكانة الجنوب الكوني، رافعاً رأسه، وخارجاً من دائرة التبعية للغرب ولأميركا على وجه التحديد، وقد أظهر البيان الختامي، بعدم إشارته صراحة للحرب الروسية_الأوكرانية، ما اعتبرته «فايننشال تايمز» ضربة للدول الغربية، وذلك بسبب عدم وجود إجماع عالمي على دعم أوكرانيا، وذلك رغم إشادة جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي، واعتبار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون موقف العشرين من المناخ العالمي كافياً.
وفي الحقيقة، أنه بالنظر إلى ما تضمنه البيان الختامي لقمة العشرين السابقة، وبحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حينها، يعتبر بيان قمة الهند تراجعاً من قبل المجموعة، بما يعني بأن العالم، ومنه حتى دول الغرب قد بات يضيق ذرعاً باستمرار تلك الحرب، وبعدم وضع حد دبلوماسي لها، وذلك لما تعكسه من آثار سلبية على الاقتصاد العالمي، وبعد كل هذا الابتزاز الذي يتابعه الرئيس الأوكراني لدول الغرب بالتحديد، ولأن دول الجنوب تدرك تماماً، بأن تلك الحرب ما هي إلا محاولة أميركية لإعادة السيطرة على العالم بأسره، وهذا ما ترفضه أو ما لا تحبذه وتريده دول الجنوب، تماما كما هو حال دول الشرق، أي الصين وروسيا.
ولم تقتصر أهمية قمة العشرين على بيانها الختامي بالطبع، بل هي أكدت على السير على طريق الربط بين دول الشرق، عبر عدد من المشاريع التي تفتح آفاقاً اقتصادية كبيرة لدولها، وقد كان الحضور العربي لافتاً، خاصة حضور السعودية ومصر، كذلك الحضور الأفريقي حيث منحت القمة الاتحاد الأفريقي نفس المكانة التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني بكل بساطة بأن ما كان يتمتع به الغرب من امتيازات في التجمعات الدولية، على حساب دول الجنوب والشرق، لم يعد كذلك.
وإضافة لما بذلته القمة من اهتمام بالمناخ العالمي، خاصة بعد ما شهده صيف هذا العام من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، فقد كان لعدد من المشاريع التي اتفق عليها في القمة، وقع بالغ الأثر، يبشر العالم، بتقدم اقتصادي وانفتاح كوني، يبدو أن الجغرافيا بدأت تحدث فيه تأثيراً واضحاً على السياسة، بحيث أن دول الجوار الجغرافي تذهب إلى الشراكة في مشاريع تقدم لها الكثير من الأرباح، بما يخفف من الاحتكاكات الحدودية التي عادة ما تحدث بين الدول المتجاورة، بسبب التداخل الحدودي والإثني، ولعل أهم تلك المشاريع ما كان أعلن عنه الأمير محمد بن سلمان بنفسه.
ذلك المشروع الذي يشارك فيه إلى جانب الهند والسعودية والإمارات كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويهدف إلى ربط الهند بأوروبا برياً، عبر خطوط سكك حديدية، تجمع النقل البري والبحري، وبالتالي تدفع بقوة التجارة البينية بين الهند وأوروبا عبر الإمارات والسعودية، وهذا المشروع كما قال أصحابه يهدف إلى تدفق الطاقة (الشمسية من الهند والغاز والنفط من الإمارات والسعودية)، وهذا المشروع إضافة لما سيحدثه من تعزيز للعلاقات بين الهند والدول العربية، فإنه سيربط الشرق الأوسط بأوروبا، دون ما كان دائماً تأمل وتحاول إسرائيل أن تفعله، أي من خلال المرور عبرها.
فهذا المشروع يأتي عملياً كبديل عن محاولات إسرائيل التي كان آخرها ما أعلنه قبل أيام رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في قبرص، من إمكانية شق طريق بري_بحري لنقل الطاقة من الخليج العربي، عبر إسرائيل ومن ثم قبرص واليونان إلى أوروبا، وكل ذلك من أجل تقديم البديل عن النفط والغاز الروسي الذي تحتاجه أوروبا، وبات محرماً عليها منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
ولعل هذا ما يفسر الاهتمام الأميركي بذلك المشروع الذي أعلن عنه في نيودلهي، كذلك ربما يفسر الاهتمام أو الحماس الأميركي لذلك المشروع هو أن واشنطن تعتبره بديلاً عن مشروع طريق الحرير الجديد، الذي سبق لبكين وأعلنت عنه قبل وقت ضمن مبادرة الحزام والطريق، والذي كانت أميركا أعلنت رفضها له، لما يحققه من نفوذ اقتصادي عالمي للصين، ولما يترتب عليه من بناء موانئ ومطارات وسكك حديد ومجمعات صناعية، والذي كان جو بايدن قد وصفه بصراحة تامة، بأنه برنامج الديون والمصادرة، مهدداً، بأنه لن يذهب بعيداً.
تختلط الأمور إذاً في السياسة العالمية، فكل الدول تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية المباشرة، ولم يعد بإمكان أحد أن يجبر الآخرين على أن يصطفوا إلى جانبه في تحقيق مصالحه، لمجرد الصداقات أو العلاقات الخاصة، والمهم هنا هو أنه إضافة إلى حقيقة كون العالم اليوم يتغير بسرعة، هو ملاحظة أن إسرائيل لم يكن لها وجود في هذه القمة، كما أن دولاً عديدة كانت تعتمد في قوتها الاقتصادية على ما لديها من مواد خام، خاصة في حقل الطاقة أي النفط والغاز، مثل السعودية والإمارات، لم تعد تكتفي بأن يقتصر اقتصادها على ذلك، بل باتت تفكر فيما يمكنها أن تنتجه، وأن تقيمه من مشاريع مثل إنتاج الطاقة النووية، كذلك من استثمار لموقعها الجغرافي، الضروري للنقل التجاري بين الشرق والغرب، حيث تكمن هنا أهمية موقع السعودية والإمارات لمشروع نقل الطاقة بين الهند وأوروبا.